أكتب كما أفكر بنابليون: سلطة أدبية في مواجهة سلطة عسكرية

شهد القرن التاسع ظهور شخصيتين تاريخيتين، تميزتا بالعبقرية هما غوته الألماني أهم شعراء عصره، ونابليون أهم قادة زمانه. في مدينة إيرفورت الألمانية حدث اللقاء الأول بين رجلي القرن.
الناقد والمؤرخ الألماني غوستاف سايبت في كتابه غوته ونابليون الذي قام بترجمته الدكتور خليل الشيخ وصدر عن مشروع كلمة بأبو ظبي يتناول هذا اللقاء التاريخي الذي جمع بين عظيمي زمانهما، من خلال رؤية نقدية تركز على أبعاد هذا اللقاء في إطار سياقه التاريخي العام، وفي أبعاده الأدبية التي يمكن استجلاؤها في كتابات غوته وعدد من الكتاب المعاصرين له.
بيت غوته
ثمة تحولات كثيرة شهدتها حياة غوته يحاول المؤلف تتبعها بدءا من الحياة الخاصة بغوته، وانتهاء بالحياة العامة التي عايشها، وكان أهم أحداثها انتصار نابليون على الجيش البروسي واحتلال ألمانيا، حيث عمل على استرضاء الفرنسيين واستقبل في منزله كبار قادتهم العسكريين الذين أمّنوا له الحماية. لكنّ أعباء إضافية ترتبت عليه تمثلت في الوقوف إلى جانب زوجة كارل أوغست بعد أن فرّ زوجها من وجه نابليون.
يشير المترجم في مقدمة الكتاب إلى التحليل الذي يقوم به المؤلف لخفايا تلك المرحلة التي تزوج فيها غوته من كريستيانة بسبب وقوفها إلى جانبه في تلك المرحلة. اللقاء التاريخي الذي جمع بين نابليون وغوته بحضور عدد من القادة السياسيين والعسكريين الفرنسيين في فايمار التي لم يخضعها نابليون لسلطته لأسباب سياسية لم يقم غوته بتسجيل وقائعه، بل اكتفى بالتلميح إلى تفصيلاته في أحاديثه الشفوية حتى قام في عام 1820 بتدوينه.
هذا اللقاء يعمل المؤلف على تثبيته في هذا الكتاب وتحليل مضمونه بإسهاب وتفصيل وصولا إلى تقديم قراءة كلية لدلالته. الحوار الذي دار بينهما تركز حول الفن المسرحي لا سيما مسرحيته “فيرتر” التي وجه نابليون إليها مجموعة من الانتقادات كما أكد غوته ذلك. لكن المؤلف في تحليله لمضمون هذا اللقاء يخلص إلى نتيجة هي أن غوته رغم هزيمة ألمانيا أمام نابليون كان يمثل سلطة أدبية في مواجهة هذه السلطة العسكرية العاتية لنابليون.
دائرة الخطر
على الرغم من الصورة المهادنة لغوته، فإن غوستاف يبين الخطر الذي تعرضت له حياته مرتين حتى كاد يفقد حياته في هذه الحرب، حيث عمد غوته إلى الحديث عن تلك التجربة التي يصفها المؤلف بكثير من التفصيل المروع لأحداثها. بعد الاتفاقية التي وقعتها فايمار مع نابليون انسحب غوته من الدائرة السياسية المقربة من البلاط، وإن ظل ينتمي إلى تلك الدائرة نظرا لارتباطه بتلك الدويلة الصغيرة واعتماده في معيشته عليها، إضافة إلى أن البنية الفكرية والثقافية لها كانت تتوافق مع رغباته وتستجيب لاحتياجاته. ويشرح المؤلف الأخطار التي واجها غوته في منزله من قبل بعض اللصوص والحماية التي استطاع أن يجعل الفرنسيين يؤمّنونها لمنزله، بعد أن تخوف من عمليات النهب والحرق التي طالت بيوت المدينة الأخرى عند دخول الجيش الفرنسي إليها.
ويكشف المؤلف عن الدور الهام الذي لعبته الصداقات الجديدة المهمة التي عقدها غوته في تلك المرحلة التي شهدت انتصار نابليون. كذلك يشير إلى سعي الضباط الفرنسيين للقاء غوته الذي كان قريبا من جنرالات المعارضة البروسيّين.
في سياق آخر ولكنه يتصل مع الواقع الذي كانت تعيشه مدينته فايمار يعرض المؤلف للعمل المسرحي الذي راح يحاكي فيه الآلام وأحداث تلك الفترة. أما على المستوى الشعري فإن مرحلة جديدة كان قد بدأها غوته في تجربته التي راحت تتحرر من المباشرة وتستبدلها بلغة يصعب فك رموز خلفيتها كما في قصيدة “باندورا” التي تعد من أصعب قصائده.
الاستثنائيون والأخلاق
يعرض المؤلف لمواقف وآراء غوته حول شخصية نابليون التي اعتبرها شخصية استثنائية تخرج عن المقياس الأخلاقي لأن تأثيراتها برأيه تشبه العوامل الطبيعية، وبالتالي فكل من يخرج عن طاعتها هو شخص غير أخلاقي. في تلك الفترة يطّلع غوته على كتاب فيخته خطابات إلى الأمة الألمانية إلا أن المقربين منه يرون أن تركيز غوته كان على نظرية فيخته اللغوية التي تتحدث عن وجود شعب ألماني أصيل.
|
كان غوته بحكم عمله كمدير لأحد المسارح على معرفة جيدة بالمسرح التراجيدي الفرنسي وقام بترجمة أكثر من عمل مسرحي لفولتير وهو ما جعله يشترك مع نابليون في صالة واحدة أثناء إحدى العروض المسرحية الفرنسية التي تمت بإشراف من نابليون نفسه. لقد أصابت مظاهر العظمة التي رأى غوته فيها نابليون بالاعتقاد بأن النظام العالمي الجديد الذي رسم معالمه نابليون لن يتغير، ولذلك عمل على ترتيب أموره في هذا الإطار، لكنه كان يظن أن القوى السياسية المتكافئة تسمح بالمشاركة. ما يخلص إليه المؤلف هنا هو أن غوته لم يقم يوما بنشر شيء من حواراته مع نابليون، على الرغم من أنه بضغط من المقربين منه حاول أثناء كتابة مذكراته “دفاتر الأيام والسنوات” أن يتحدث عن كل سنة من تلك السنوات. حوارات غوته مع نابليون والتي نشرت بعد وفاته تظهر معرفة نابليون ومحبته للمسرح والاهتمام بوظيفته، كما أنها تدل على اهتمام نابليون بغوته، الأمر الذي جعل المؤلف يستفيض في الحديث عن هذا اللقاء ودلالاته.
الشاعر والإمبراطورية
يروي الكاتب هومبوليت الذي عاصر غوته أن الأخير تعود أن يتحدث عن نابليون بسيدي الإمبراطور كما كان معجبا بشكل لا حدود له بالثقافة الفرنسية، إضافة إلى أنه كان يرتدي الوشاح الذي منحه إياه نابليون بكل أريحية حتى أصبح ذلك مضرب الأمثال في فايمار التي كان يعيش فيها. علاقة غوته تجاوزت نابليون إلى شقيقه المحب للفنون والزاهد بالسلطة وقد جعلته تلك العلاقة الوطيدة به قريبا من الحكام ما انعكس إيجابيا على نتاجه الذي أصبح خصبا في تلك الفترة، لا سيما أن نابليون كان معجبا بغوته أيضا ومهتما به ما منحه شعورا عميقا بالنفس. ويفرد الباحث لمؤلفات غوته حيزا مهما يتحدث فيه عن كتابه “شعر وحقيقة” الذي يعد من مساهمات غوته في الحقبة النابليونية، والذي حاول فيه غوته أن يكون بمثابة مؤرخ محترف عمد إلى استخدام الكثير من المصادر والأدبيات لأجل الحديث عن تاريخ شبابه، لكنه لم يكن عملا ذاتيا بقدر ما كان كتابة تاريخية للذات بشروط علمية. ويرى الباحث أن غوته وأبناء جيله لم يكن انحيازهم إلى فرنسا بتأثير من شكسبير، بل لأن فرنسا قد احتلت موقعها العالمي من خلال شخصية فولتير التي شكلت نموذجا لها والذي جسده غوته، وكأنه يتحدث عن نفسه. الباحث يرى في كتاب “شعر وحقيقة” من خلال قراءة سياسية له أنه بمثابة تحذير للألمان لكي لا يضيعوا طاقتهم في البحث عن أهداف وطنية يراها خاطئة، لأن ما يجب أن يعملوا عليه هو الإذعان للاحتلال والهيمنة الأجنبية، وأن يتذكروا قوّتهم الذاتية التي تتمثل في الثقافة الفردية.
الذات التاريخية
بعد وفاة نابليون في سانت كاترين تحدث غوته عن سياسة نابليون ثم تحول بعد ذلك إلى كاتب تاريخي بدءا من كتابه “خلاصة وافية للعالم”، الذي أتبعه بكتاب “ثانية في الحملة” وكتاب “حصار ماينز” والكتابات السيرية لحروب الثورة التي اعتبرها غوته وحدة متكاملة. يعلق الباحث على هذا التحول بالقول إن تحول الذات إلى التاريخية جعل من كتاب “شعر وحقيقة” كتابا تاريخيا، كما ساهم في جعل غوته يقوم بتحويل تاريخ عصره إلى مجال للتجربة الشخصية. ولتأكيد معنى هذا التحول في شخصية غوته ينقل عنه العديد من الحوارات التي أقامها مع عدد من أعلام عصره. كذلك يحاول الكشف عن حضور شخصية نابليون في مؤلفه “فاوست” بعد أن يعترف لأحدهم بأن فاوست أجبرني أن أكتب كما أفكر بنابليون وكما سبق لي أن فكرت به. في نهاية الكتاب يتوسع في قراءة دلالات هذا العمل الهام والكشف عن صياغاته، وما أراد غوته أن يعبر فيه عن أفكاره.