أكبر تظاهرة خيرية في تونس لترسيخ مفهوم الفن التضامني

اثنان وأربعون فنانا يعرضون أعمالهم الفنية في تظاهرة تحتفي بكرم الفنّانين وباللّغة الصامتة للإبداع.
الأحد 2020/03/15
الفن في خدمة المبادرات الخيرية

تونس- انطلقت الدورة الرابعة للتظاهرة الخيريّة Solid’Art تحت إشراف جمعيّة "غاية" وبدعم من عدّة مؤسّسات تونسيّة مهمّة ومشاركة ثلّة من أهمّ الفنانين التونسيين.

واحتضنت قاعة سيركس بفضاء "الروق" Le pavillon بضاحية قمرت معرضا للفنّ التشكيليّ التونسيّ ضمّ اثنين وأربعين فنّانا وأكثر من سبعين عملا فنيّا، وتمّ افتتاحه يوم الجمعة 06 مارس 2020 ويتواصل حتّى يوم 15 مارس الجاري.

وتعود مداخيل بيع الآثار الفنيّة المعروضة لفائدة الضيعة العلاجيّة بمنطقة سيدي ثابت، التي ستمكّن من إدماج ستّين شخصا من ذوي الاحتياجات الخاصة في سوق الشغل وفي الحياة العامّة عبر تمكينهم من رعاية صحيّة وتدريب مهنيّ مناسب لهم.

وتكفّلت القائمة على المعرض الفنّانة نادية الزواري باختيار أسماء الفنّانين المشاركين وأشرفت على سينوغرافيا الفضاء بعناية فائقة، الأمر الذي جعل المعرض يلقى نجاحا باهرا وإقبالا من قبل مقتني الأعمال الفنيّة ورجال الأعمال والمهتمّين بالشأن الفنّي.

وتقول نادية الزواري في افتتاحية كاتالوغ المعرض "مرّة أخرى يحضر الفنّانون في معرض جماعيّ لترسيخ مفهوم الفنّ التضامنيّ. هو معرض يجرّ معه قيما اجتماعيّة وأخلاقيّة، وذلك بغرض تبديد مصاعب أناس تجاهلهم الآخرون.

الفنان لا يستطيع التخليّ عن بعده الإنساني
الفنان لا يستطيع التخليّ عن بعده الإنساني

وهذا المعرض هو شاهد على كرم الفنّانين المشاركين والراّغبين بتخفيف آلام الإعاقة في كلّ مكان، وأين بإمكانهم إحداث التغيير الإيجابيّ فيه. في الإبداع لن يتمكّن الفنان من التخليّ عن بعده الإنساني، وهذه اللّقاءات تسمح له بترسيخ التزامه الإنساني والإبداعي...". ويمكن هنا تبنّي المقولة الشعبيّة التونسيّة الشهيرة "حِمْل الجّْمَاعَة رِيشْ" للتعبير عن قوّة اتحاد المجموعات في مواجهة المصاعب وتحدّي المستحيل، بدليل أنّ العمل الخيري يلقى باستمرار تجاوبا من قِبل الفنّانين.

يقول رجل الدين المسيحي فرنسيس الأسيزي "المكان الذي نجد فيه العمل الخيري والحكمة، ينقطع عنه الخوف والإهمال"، وإذا اعتبرنا أنّ الفنّ نوعا من الحكمة فإنّ ارتباطه بالعمل الخيريّ يعدّ من المبادئ الأساسيّة لديمومته وللارتقاء بصورة الفنان وبعمله.

ويعدّ أغلب الفنّانين المشاركين من خيرة الأسماء المعروفة في تونس وخارجها، مثل الصيد وفانسونزو ماغناني وباكر بن فرج ونعمان قمش ومراد الحرباوي ووسام العابد ومحمد أمين حمودة وشهرزاد الفقيه وعائشة زرّوق ويمن برهومة وهدى العجيلي ومحمد بن سلطان ونجاة الغريسي وماجد زليلة ومهدي قريعة وهالة عمّار وعلي حيساوي وحمّادي بن سعد ووديع مهيري وغيرهم.

ورغم اختلاف تجارب الفنّانين المشاركين فإنّ ما يجمعهم ليس فحسب الغاية النبيلة في تقديم المساعدة الماديّة، وإنّما في المواضيع التي تعالجها أعمالهم والتي تلتقي بين ما هو يوميّ واجتماعيّ وسياسيّ وذاتيّ وكونيّ.

معرض يحمل معه قيما اجتماعيّة وأخلاقيّة
معرض يحمل معه قيما اجتماعيّة وأخلاقيّة

 فبين الصور الفوتوغرافيّة التي قدمتها هالة عمّار وعلي حيساوي والأخرى التي صوّرها أمين بوصفاّرة تُسْرد حكايات الدّوران والاستمراريّة والسرعة والثُّقل والمعاناة والشيخوخة، إذ يلتقي الفنّانين في تسريب المعنى المباغت للموت والفراغ عبر صور تجسّد الوحدة والعزلة واليوميّ والبشري الشّرير. تأخذنا أعمالهم إلى نفق الغرور الإنساني والأنانيّة المتفشيّة في مجتمعاتنا، ولكنّها تؤكّد أيضا أنّ الفنّ لا يمكن أن يكون خارج كلّ ذلك، فمهمّة الفنّ الحقيقيّة هي "أن تُجَمّل الحياة حتى في أقبح صورها" على حدّ قول محمّد شكري صاحب كتاب الجوع والحسرة رواية "الخبز الحافي"، يقول "أنا أكلت من القمامة ونمت في الشوارع فماذا تنتظرون مني أن أكتب، عن الفراشات؟؟".

وفي سياق إبداعي آخر، تحضُر خلال المعرض أعمال تتناول موضوعات تناقض ظاهريّا ذلك الشرّ الكامن فينا، كموضوع الحبّ والولادة والعطاء والأمل، إذ تتناول كلّ من شهرزاد الفقيه وبسمة الهدّاوي وهدى العجيلي وكوثر درغوث ونايلة بن عيّاد جماليّة الطبيعة ليرسموا لوحات تتحدّث عن التجديد والاسترخاء والمتعة والصفاء، ويقدّمن أعمالا تحت عناوين من قبيل "ثلاث فراشات" و"أكوان" و"منطق العصافير" و"حلاقات تضامن".

تدور ممارساتهنّ ضمن مفهوم "الحبّ" الذي له مفعول السحر في علاج كل أمراض المجتمع، ويبعثن رسالة مشفّرة من الأمل المغلّف بحزن الواقع وتراجيديا الآمال، أو كما يقول أميل سيروان "فنّ الحبّ؟ أن تعرف كيف تجمع طبيعة ممتصّ دماء إلى تخفّي فراشة". تجعلنا ثيمة الحبّ التي قدمتها أنامل أنثويّة ندخل إلى مناطق المحضور والمسكوت عنه وضمن الهواجس البشريّة المرعبة التي اقترنت بمفهوم الحبّ كالجسد والتحوّل والانقلاب والخيانة والشهوة والجنون والتعاسة. تدعونا الصور إلى التفكير في كلّ الضرر الذي أحدثه البشر في "الأرض" تلك الأمّ المبعثرة بين الحروب والنهب والاستنزاف، ألم يقل أحد الفلاسفة "لو كان آدم سعيدا في الحبّ لجنَّبَناَ التاريخ"...

تحتفي هذه التظاهرة بكرم الفنّانين وباللّغة الصامتة للإبداع، تلك اللّغة التي وصفها أرسطو بالمرهم الذي يعالج متاعب الحياة، والتي اختزل نيتشه كلّ غاياتها في قوله التالي "لدينا الفنّ حتى لا نموت من الحقيقة".