"أفول العقل العربي" يبحث في أسباب فشل التحديث

وقف أغلب "الفقهاء" و"رجال الدين" والحركات الدينية في العالم العربي ضد كل محاولات التحديث، بطريقة أو بأخرى، وكانت لتحالفاتهم على مر العقود والقرون مع السلطة الحاكمة نتائج سلبية كثيرة، لذا فإن أي محاولة تغيير وتجديد لا بد أن تمر من نقد هذا التحالف بجرأة، وهذا ما تصدى له الشاعر المصري سمير درويش.
تظل مصداقية الشاعر مع ذاته والعالم رهنا بمواقفه الإنسانية المرتبطة بقضايا الحرية والسياسة والدين والثقافة والفن والأدب، ومناهضة لكل أشكال القمع والظلم والتزييف والاضطهاد والسجن والقتل، ويسجل التاريخ العربي والعالمي عددا لا حصر له من الوقائع والأحداث التي اتخذ فيها الشعراء مواقف إنسانية حازمة وكاشفة وقوية سواء كان ذلك من خلال قصائدهم أو احتجاجاتهم أو تصريحاتهم أو مقالاتهم.
وهذا ما يفعله الشاعر سمير درويش في كتابه “أفول العقل العربي – عن زواج الديكتاتورية والأصولية الدينية” الذي يجمع فيه مقالاته التي نشرها في مجلة ميريت، وتحمل مواقفه وأفكاره ورؤاه حول علاقة الدين بالسياسة والثقافة والأدب والفن، وعلاقة السياسة بالخطاب الديني، وذلك انطلاقا من محاور رئيسية تتمثل في: تجديد الخطاب الديني، الخطاب الثقافي ومشكلاته، نظرات في الأدب والفن، الثقافة السياسية وتجلياتها.
أفكار تتغير
يقول درويش “يعرف كثيرون من المقربين أنني بدأت حياتي الثقافية ـ سوى الشعر ـ بالانخراط في ‘المجموعات الناصرية’ نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، كنت أحد مجاذيب ‘الزعيم الخالد’ كما كنا نطلق عليه، جمال عبدالناصر، ببساطة لأنني جئت من أصول فقيرة، من أسرة فلاحية تشتغل بالزراعة ولا تمتلك الأرض التي تزرعها، كنت أدين بتعليمي له، أو هكذا ظننت، لهذا كنت أدافع عنه باستماتة، وبالتالي كنت ضد توجهات أنور السادات الذي مشى ‘بأستيكة’ فوق إنجازات الزعيم، حيث تصالح مع ‘العدو التاريخي’ معطيا ظهره لـ’قضية العرب الأولى’، وسلم أوراق اللعبة لأميركا الإمبرالية التي تمتص دم الشعوب، والتي تحاربنا كي لا نتقدم.”
ويضيف “صحيح أن هذا الانحياز للناصرية خفت كثيرا مع تطور الأحداث وتنامي الوعي، لكن ثورة 25 يناير 2011 أجهزت على ما تبقى منه، فقد كنت أشاهد ما يفعله المتحكمون في المشهد لوأد ثورة نظيفة أرادت أن تكون مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة حقا، وقفز إلى ذهني ما كنت أقرأه ـ من منظور مختلف، أعمى – أن هذا بالضبط ما تم في 1952 بعد نجاح حركة الضباط، لوأد الحركة الليبرالية التي كانت تتنامى بعد ثورة 1919 وأنتجت طفرة في الفكر والفن والثقافة والسياسة، من أحمد لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، من سعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد فريد ومصطفى النحاس، ومن أم كلثوم وعبدالوهاب ومحمود مختار ومحمود سعيد وسيف وأدهم وانلي.. من ‘االإسلام وأصول الحكم’ و’في الشعر الجاهلي’ و’لماذا أنا ملحد’. من أول دستور وأول برلمان.. والقائمة تطول.”
النقد في الفكر الإسلامي فقير بالقياس إلى مفهوم النقد بشكله الواسع والحر وهذا آفة لا بد للمسلمين من تداركها
ويضيف “بدأت الصورة تتضح أمام عينيّ بالتدريج فـ’الحركة’ التي أممت قناة السويس وأصدرت قوانين يوليو الاشتراكية وقانون تحديد الملكية الزراعية، وأنشأت مصانع الحديد والصلب والألمنيوم والفوسفات والأسمنت، هي نفسها التي قادت الجيش إلى هزيمة ‘خائبة’ في اليمن، وإلى ‘انكسار مذل’ في سيناء عام 1967 وهي التي كممت الأفواه، وسجنت المعارضين وعذبتهم حتى مات بعضهم من التعذيب، وهي التي قسمت مصر إلى دولتين، دولة الشعب برئاسة جمال عبدالناصر، ودولة الجيش التي يديرها صغار الضباط بقيادة عبدالحكيم عامر. الحركة هي التي قادتنا إلى دكتاتورية غشيمة، لا تريد أن تسمع إلا صوت الزعيم الملهم القائد الفرد الواحد الأحد.”
ويؤكد درويش أنه راض عن الأفكار التي أوردها في كتابه هذا بنسبة تصل إلى 90 في المئة، ويقول “هي نسبة عظيمة في رأيي في مناخ لا يستطيع فيه المثقف أن يقول ما يفكر فيه بالضبط، لأنه واقع بين مطرقة السلطة التي تحاسبه على تدوينة على فيسبوك أو تغريدة على تويتر، وسندان الجماعات المسلحة التي تحاكم وتحكم وتنفذ الحكم بالقتل، مثلما حدث في حالة د. فرج فودة ونجيب محفوظ، وسلمان رشدي الذي نفذ الحكم بقتله بعد 33 عاما كاملة، أوجرجرة الناس للقضاء وسجنهم كما حدث مع إسلام بحيري ومحمد عبدالله نصر وأحمد ناجي، أو التفريق بين المرء وزوجه، مثل حالة نصر حامد أبوزيد.”
ويتابع “بصرف النظر عن اتفاقي أو اختلافي مع النماذج التي ذكرتها، فالمفروض أن الرأي يواجه بالرأي، لا بالرصاص ولا السكين ولا السجن والترويع، وليس ترويع الكاتب فقط، بل أسرته أيضا. وفوق كل ذلك وقبله وبعده المحاصرة المجتمعية، فمجتمعاتنا تحتفي بمن يقول لها ما تعرفه، وتتوجس من أي رأي مخالف، وتنبذ صاحبه وتتجنبه وتتهمه بالمروق والزندقة.. إلخ.”
التحديث الحقيقي
بعد أن يستعرض درويش لدورات صعود فكرة التحديث وهبوطها، خاصة في دورتيها البارزتين (محمد علي ـ جمال عبدالناصر)، يتساءل: لماذا يفشل التنوير في مصر؟ ويقول “الإجابة ببساطة، أن التحديث – التنوير؛ جاء بأوامر عليا من الحاكم وبإرادته، ولم يأت نتيجة حراك مجتمعي سليم. فالحاكم الفرد في كل الحالات يكون قد تخلص من معارضي توجهاته بأشكال عنفية مروعة، وتحالف – لفترة أو طوال الوقت – مع من يسمون أنفسهم ‘رجال الدين’، في عملية تقاسم للسلطة بين الفريقين، بنسب يتحكم فيها الواقع على الأرض في كل مرحلة حسب ظروفها ومعطياتها، وهو الأمر الذي تكرر بصورة أوضح عام 2011 ـ 2012، حين رعى المجلس العسكري (الحاكم وقتها) عملية استيلاء جماعة الإخوان على السلطة في انتخابات غير حاسمة، أجريت أساسا بين ممثلين عن التيارين المتنافسين منذ عام 1800.”
ويواصل “إذا فتحنا القوسين يمكن أن نقول منذ عصر الأسرات الفرعونية حدث التزاوج بين القائد العسكري – الإله، وبين كهنة المعبد. والنتيجة التي أخلص إليها هي أن التحديث – التنوير ليس قرارا فوقيا، ولا رغبة فردية، لكنه نتيجة حراك مجتمعي شامل على المستويات كافة، ومشاركة واسعة من جميع أطياف أي مجتمع، دون قمع أو قهر أو إسكات وتهجير ومطاردة المخالفين، لأن الضمانة الأهم لاستمرار أي طفرة تحديثية هي الحماية المجتمعية، التي لا تتأتى إلا بإحساس كل فرد أنه شريك فيها وضامن لاستمرارها، وهذا سيفسر لماذا بدد أولاد محمد علي وأحفاده القاعدة التي بناها، كما سيفسر لماذا انحرف زملاء جمال عبدالناصر عن الطريق الذي اختطه، والأهم: لماذا لم يقف الشعب المصري ليحمي تلك المنجزات إن كانت تصب في مصلحته بالأساس؟ الإجابة ببساطة لأنه لم يشارك في صنعها، ولم يحس أنها تصب في مصلحته بالفعل.”
ويرى درويش أن من أهم الملفات التي طالها الثبات، وإسقاط العقل والمنطق، هو دور “الفقيه” في تنظيم الواقع السياسي والاقتصادي والعلمي والأدبي للمجتمعات، أو ما يسميه هنا “سلطة الفقيه”، هذا الذي يعتقد أنه يعرف كل شيء عن أي شيء، لأنه يحفظ القرآن والأحاديث، ويرى ـ تبعا لذلك – أنه الوحيد المنوط به الحكم، بنفسه أو بغيره، فلو لم يكن “الفقيه” رئيسا كما في إيران مثلا، فهو شريك في الحكم كما في معظم الدول العربية، قيم على النصوص والمفسر الحصري لها، وفي سبيل تثبيت سلطته تلك لا يتورع عن اتهام المخالفين بالكفر والخروج عن المعلوم من الدين بالضرورة، وبازدراء الأديان، ويحاربهم في معاشهم، ويقوض أمنهم وأمن أسرهم، ويقودهم إلى النيابة والمحاكم والسجون، وهو يعلم أن تفسيره ليس سوى صورة واحدة من مئات التفسيرات، وأن رأيه ليس سوى رأي يعمل بغيره مسلمون آخرون في بقاع أخرى مجاورة.
من أسباب الثبات وإسقاط العقل والمنطق هو دور "الفقيه" في تنظيم الواقع السياسي والاقتصادي والعلمي والأدبي
ويتابع أن “سلطة الفقيه التي يحصل عليها من سلطة الفقه تتسبب في الكثير من الحالات في الوقوع في تناقضات فجة”، مضيفا “أظن أنه آن أوان رجوع الفقهاء إلى أعمدة المساجد، وأن يتركوا مسائل السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والطب والعلوم لأهلها الذين يعرفونها، فلو افترضنا أن ‘الكتاب’ يحوي كل شيء، فإنه جاء عاما، وهم لا يفعلون سوى نقل التراث بعيوبه وأخطائه العلمية والمنهجية، فيساهمون في تخريج أجيال لديها مشكلات عميقة في التعلم، فضلا عن التثقيف، لهذا كله فإن أي تطوير للخطاب الثقافي لا بد أن يبدأ بتطوير أو تعديل أو تنقية ـ أو أي مصطلح آخر – الخطاب الديني، فلا توجد أمة تقدس ماضيها وتدعو إلى عودته وعدم الخروج عنه كما نفعل نحن، ولا نعتبر بتأخرنا وتقدمهم، بل نبحث عن أسباب عجيبة لهذا التأخر، هي نفسها ـ الأسباب هذه – تعد سببا إضافيا، أو قل سببا جوهريا للتخلف.”
ويشير درويش إلى أن النقد في الفكر الإسلامي فقير بالقياس إلى مفهوم النقد بشكله الواسع والحر، وهذا ـ في ظنه – آفة لا بد للمسلمين أن يتخلصوا منها بفتح آفاق التأويل، لأن الخوف من النقاش وإعمال العقل يمنع المجتهدين المسلمين من الجهر بما يفكرون فيه خوفا على حرياتهم وأرزاقهم وحيواتهم نفسها، والنتيجة أننا مسجونون في حيز ضيق من التفكير لا يصمد إن وضع على محك الدراسة، وهو يتحدث هنا عن اجتهادات الأولين التي تدخل في باب الاجتهاد البشري، فلا يعقل أن نغلق باب الاجتهاد منذ ألف عام، ونكفر المجتهدين، ونقرر بإصرار أن نعيش على إنتاج بشر ماتوا منذ ألف عام تغيرت خلالها الحياة مئات المرات، وأصبح ما يتحدثون عنه في الكتب غير موجود في الواقع، ونظرة واحدة في مباحث مثل الجهاد والنكاح وإرضاع الكبير وبيع وشراء الرقيق والغنائم توضح ذلك بجلاء.
ويقول “التحديث ليس افتتاح مسرح هنا أو سينما هناك، وإنما عملية معقدة يعاد فيها النظر إلى المناهج التعليمية، وعلاقة الدولة بالدين والمشتغلين به، وسن قوانين مدنية على أسس المواطنة، ومراعاة الاختلافات الطبيعية بين الناس وأفكارهم واعتقاداتهم، وأن لا يجرم صاحب الفكر على أفكاره مادام لم يروع الناس أو يجبرهم على أن يعتنقوا ما لا يودون اعتناقه.”