"أفعال اليائس" رواية تستكشف تجارب المرأة مع جسدها

هناك من الخفايا والأسرار التي لا يكشفها الشخص عن جسده، يتركها في أعماقه المظلمة ويتكتم عليها، خاصة ما يتعلق بالرغبات والعاطفة والجنس والخيالات، ويكتفي الجميع بما يمكن إظهاره من المتفق عليه، خوفا من الخروج عن رغبات الآخرين. لكن الكاتبة الأيرلندية ميغان نولان كسرت كل تلك القيود في روايتها الجريئة "أفعال اليائس".
أثارت رواية “أفعال اليائس” للكاتبة ميغان نولان عند صدورها عام 2021 جدلا واسعا بسبب تناولها الجريء لموضوعات مثل الوحدة والعزلة، الهوس بالحب والجنس، تدمير الذات، وتعقيدات العلاقات العاطفية.
تنطلق نولان في روايتها من تداخل الرغبة بالسيطرة، وكيف يمكن أن تتلاشى الحدود بين الحب والسيطرة. وتستكشف تجارب المرأة مع جسدها، وكيف يمكن أن يؤثر المجتمع على نظرتها لنفسها، وكيف يمكن أن تدفع مشاعر الوحدة والعزلة الإنسان إلى اتخاذ قرارات يائسة.
الحب الهوسي والمدمر
في المشهد الأول من الرواية، التي ترجمتها هدى شبطا وصدرت عن دار المدى، تطالعنا راويتنا المجهولة، وهي شابة بائسة تقع في غرام كاتب جذاب ومنعزل يدعى كياران. إنه أكبر منها سنا، ذو عينين رمادية “قاسية” ويدين كبيرتين، يمد يده معترضا عند افتتاح معرض في إحدى الصالات المخصصة لعرض الأعمال الفنية. عندما تدلي بتعليق ساخر عابر عن عدم فهمها للفن معتبرة نفسها تلميذة، وذلك بعد أن سألها عن رأيها في أعمال المعرض، حيث ردت “أوه، إنها في الواقع تبدو لي مجموعة من أشياء موجودة في غرفة، أليس كذلك؟ إنها لا تعني لي الكثير. وقد أتيت فقط لأتناول بعض المشروبات”، فيجيبها بجدية “أليس جزءا من واجبنا أن نفهم السبب وراء وجود هذه الأشياء في هذه الغرفة تحديدا؟”.
راوية نولان شابة تركت دراستها الجامعية في دبلن، وتعمل في وظائف بأجور زهيدة. نعرف عنها كل شيء باستثناء اسمها، تعيش حياة مؤقتة، تعاني من صداع الكحول، بعد وقت قصير من المشهد الافتتاحي، تسلم نفسها للكاتب الأيرلندي – الدنماركي، كياران، الذي تعتبره للوهلة الأولى “أفضل مني في كل من النواحي الجوهرية والسطحية”. وتراه جميلا إلى درجة أنها تقدسه، وتشيد بفمه المعطر برائحة الكمأة وقوة جسده “موضع صلاة” والحب “قوة تطهرني”.. كياران لا يحب الروايات الحديثة. كما أنه يكره رؤية حبيبته ثملة، وهو أمر مثير للجدل، خاصة أنها ليلة لقائهما شعرت بنشوة شديدة جراء سكرها.
في الخلفية تلوح فريجا، حبيبة كياران السابقة الرشيقة الناعمة، السمراء البرونزية النحيلة، التي تتميز بعينين زرقاوين واسعتين وأطراف طويلة، والتي تحاول استعادته.. وكما هو الحال في العديد من قصص الحب المغاير الهش والمتملك، تحدث علاقة معذبة بنفس القدر بين المرأتين وتحمل أيضا شحنة جنسية. تضاعف فريجا من وجودها عبر رسائل البريد الإلكتروني المتكررة لكياران: “إنها لطيفة أستطيع أن أرى ذلك، لكنها ممتلئة بعض الشيء بالنسبة لك، أليس كذلك؟”.
لكن الصراع الأكثر إثارة في الرواية يدور داخل ذات الراوية نفسها. إذ تخضع لتقلبات مزاج كياران وقسوته العابرة، إذ يرفضها فجأة، مما يدفعها إلى دوامة من الغيرة والشوق. إنها تعلم أن عليها بذل كل ما في وسعها للحفاظ على حبه. ومن جهة أخرى، تعلم أن هناك خطبا ما داخلها، ماذا إذا عاد إليها يوما ما، هل تقرر التمسك به وبحبه مهما كلف الأمر، حتى لو دمرها ذلك. قد يبدو توافق هاتين الفكرتين أمرا غريبا، لكن أي شخص عاش علاقات مستَهلكة سيدرك هذه الثنائية.
الرواية سرد لعلاقة رومانسية شريرة وغير متوازنة ومألوفة بشكل مزعج، تنبض بالحياة وتتخللها تهديدات العنف. سرد بضمير المتكلم ونبرة اعترافية، يجمع بين اعتراف محبط ونقد واضح، وتجسد ووعي منقسم بين التمرد والخضوع، بين الهروب من الانحطاط وإضفاء الإثارة عليه، بين الحب والقبول به والهروب منه ومحاولة الحفاظ على الذات.
إن سرد الروائية يتألق بدقة غامضة، حيث إن وعي الراوية الذاتي الثاقب، الذي يكاد يكون منحرفا، يجعل الحدث أكثر حزنا وإلحاحا. أثناء طهيها وتنظيف شقتهما، تدرك أن “العيش معه أجبرني على معاملة نفسي بطريقة لم أكن لأستطيع القيام بها وحدي”. تكتب عن كياران “بدا كمثال على التفوق، كدعاية لفكرة الرجل”. تلقي بعض الحقائق بلا مبالاة، ثم تحدث دويا مرضيا، كما هو الحال عندما تشير الراوية إلى نفسها كأداة وظيفية للرجال، “آمنة ومفيدة كحوض غسيل”. وفي عدة نقاط، تمارس الجنس مع رجال تنفرهم، فتسمح لهم بإرهاقها بإصرار. تشعر بتحسن بعد أن تسمح لهم بإقناعها (إن لم يجبروها صراحة) بالذهاب إلى الفراش. “عندما أنام مع رجال لا أحبهم”، تتأمل، “رجال يزعجونني أو يخيفونني أو يثيرون اشمئزازي… أجعل نفسي سيئة مثلهم. أسحب نفسي إلى مستواهم بالسماح لهم بالحصول على ما يريدون. ممارسة الجنس معهم تهينني، وترددي واستسلامي في النهاية يهينني. بمجرد أن أهان، لا أكون أفضل منهم حقا”.
هذا ليس شعورا يثير ذعرها؛ في الواقع، يبدو أنه يهدئها. قد لا يكون هذا مثاليا. ولكن في مراحل معينة من الحياة، في العالم غير المتكافئ الذي نعيش فيه، تجادل الروائية بأنه قد تكون هناك قوة للنساء في القدرة المتحكمة على الشعور بالشفقة. لكن ربما لا ينبغي لنا أن نأخذ ذلك على محمل الجد. من يتألمون لا يطلبون الشفقة دائما؛ ومن يعترفون بالذنب لا يطلبون المغفرة دائما. وهنا الراوية لا تحتاج إلى تعاطفنا.
هكذا نكتشف أن هناك شيئا ما في موقف الراوية فهي تقدم طريقة مختلفة لمعالجة الملذات الحقيقية التي تختلط بالأمور التي تضطهدنا وتهيننا. إنه لمن دواعي الارتياح أن تمنح لنا طرق أخرى للشعور بالجنس الذي لم نرغب بممارسته، والجنس الذي نرغب فيه ولكن لا ينبغي لنا ممارسته، طرق تتجاوز الشفقة على الذات أو جلد الذات. ولكن كأي رؤية متشددة، فإن لها ثمنا، وتتطلب نوعا من الصرامة الذي غالبا ما يخفي نقيضها.
من هنا فإن الروائية وانطلاقا من رفض فكرة أن ألم الأنثى جميل أو فضيلة بطبيعته، تضيء أحد أكثر ألغاز الحياة غموضا: لماذا نريد ما نريد، وكيف نريده؟ ومن ثم تتعمق في تحليل الحب الهوسي والمدمر، حتى يغرق القارئ في حاجة راويتها الماسة إلى الحب، إلى درجة أن تجربة القراءة نفسها تصبح إدمانا: فأخذ استراحة يشبه محاولة التنفس، ثم يكتشف أن الأكسجين في الغرفة قد تناقص. وكما هو الحال مع الإدمان، عندما يكون الوضع جيدا، يكون جيدا حقا.
الحقائق المرة
تتميز كتابة الروائية ببصيرتها للأيام الهادئة التي عاشتها الراوية مع صديقتها الجامعية ليزا، وفي وقت لاحق، تصبح ثاقبة في استكشافها لدوافع الراوية: “مضادات الاكتئاب تأتي وتذهب، دون أن تحدث فرقا يذكر في أي من الحالتين، فردة فعلي تجاه الحياة كلها… غالبا ما تكون: ماذا؟ ثم، كلما وقعت في الحب، تجدد كل شيء، بما في ذلك نفسي”.
هذا الأسلوب البسيط يضفي على أوصاف التدمير الذاتي العديدة – من الإفراط في الشراب إلى إيذاء النفس – كرامة هادئة، كما لو كان يقول: نعم، هناك رعب في هذه الحقائق، لكن تجميلها لن يجعلها أقل فظاعة. يتجلى هذا في تفاني الروائية المستمر في صياغة صورة دقيقة لعلاقتها بالكاتب: فهي ترفض توزيع اللوم بسهولة، وتضع سلوك كياران المروع جنبا إلى جنب مع تواطؤ الراوية في إذلالها. وهي هنا منسجمة مع ألعاب القوة الجندرية، مرتاحة لإشعالها ضد بعضها البعض ومراقبة التداعيات.
إن الرواية تعد ثقلا موازنا قويا لفكرة أن الشابات اليوم يتمتعن بحرية تعريف أنفسهن بمعزل عن الرجال. تظهر الروائية أنه طالما أننا نتصارع مع أفكار الرجال حول جاذبية المرأة، فإن النساء يدركن ذلك، إلى حد ما، من خلال النظرة الذكورية. تتذكر الراوية نفسها في موعد غرامي، وهي في غاية السعادة بجاذبيتها، فتقول “كنت مثل آيس كريم الفراولة، سماء زرقاء. كانت رائحتي زكية إلى درجة الجنون”.
لكن إنجاز الروائية الأشجع هو استعادة تجربة الحب والرغبة الأنثوية بكل تدرجاتها، جاعلة منها شيئا غالبا ما يكون قبيحا – غير رومانسي في الحقيقة – ولكنه حيوي للغاية ويستحق التأمل. ومثل رحلة في عالم القصص الخيالية، تحرر راويتها بفعلها هذا. وبينما تسأل الشابة بدهشة في ختام الرواية “بماذا سأفكر الآن بعد أن توقفت عن التفكير في الحب أو الجنس؟”.
ويبقى أنه على الرغم من موضوع الرواية المثير وتفاني الروائية الثابت في معالجة الحقائق المرة، تحافظ الرواية على طابعها الغامر طوال الوقت. قد يقل الأكسجين في الغرفة عندما يستنشق القارئ أنفاسه، لكن من المستحيل ألا يعود إليها، حتى مع قلة أنفاسه.