أغنيات فيروز والتنمر!

من ذا الذي لا يحب فيروز ولا تبدأ صباحاته على صوتها الملائكي؟ فحتى هي حين سألت ما الأغاني التي تسمعها فيروز في الصباح ردت “أسمع صوتي من نوافذ الجيران”.
قليلون هم من لا يتلذذون بسماع صوتها ويرونه غير محبب لآذانهم ولا يستلطفونه أو يستلطفون أغنياتها، حتى في الغرب لها نصيب كبير من الحب، وهي أرزة للموسيقى اللبنانية وأحد رموزها الخالدة.
غنت جارة القمر للحب والمحبين، للأوطان المغدورة، للمزارعين والضيعات والعمال البسطاء، وخصت في أغانيها العرب جميعهم من المحيط إلى الخليج، وصنفتها فوربس أنها أسطورة تجاوز صوتها حدود الاختلافات.
نثرت فيروز في أغانيها وصايا كثيرة للحب، لكنها عبرت عن آلامها وتركت أغنياتها شاهدة عن حكاياتها وعلاقاتها.
وكأي محب لها، كنت دائما أتساءل لم كل هذا الحب بين الناس لهذه المطربة التي تبدو لي أحيانا أغنياتها ذات كلمات بسيطة، مقتطفة من مسرحيات غنائية؟ أي المنطق يقول إنها ستظل أغاني أنجزت ضمن سردية واضحة، لقصة يجسدها ممثلون ويؤدونها مسرحيا. وإذا ما قارناها بمن اشتهروا في زمانها أمثال أم كلثوم ووردة الجزائرية وميادة الحناوي لتعمق لدينا السؤال أكثر.
ربما يعود ذلك إلى التزامها بقواعد عاصي الرحباني، ففيروز حتى في لقاءاتها الإعلامية كانت هادئة رصينة، لا تنطق إلا بما يجب في الوقت المناسب، لذا كنت دائما على قناعة بأنه لولا عاصي لما كانت هناك فيروز. نعم لولا قواعد عاصي وضوابطه المشددة عليها في الحركة والسكون ولولا اتباعها لأسلوب “العسكري” الصارم لما اكتسبت هالة مقدسة حولها. وحتى بعد انفصالها عنه فنيا وشخصيا، تمردت عليه بألحانها وكلمات أغانيها، لكنها التزمت بذات الأسلوب في اللقاءات والتصريحات.
الغريب أنه لو تأملنا أغانيها وكلماتها لوجدنا أن بعضها لو تغنت اليوم من فنانات مثل هيفاء وهبي وروبي وغيرهما، لاتهمن بأنهن لا يقدمن فنا، مثل “أمي نامت ع بكير” و”أنا وسهرانة” و”معرفتي فيك” و”تعى ولا تجي”، فماذا لو غنت إحداهن أغنية مثل “ع هدير البوسطة”، حينها لا أشك أن حملة نسوية شرسة ستثار ضدها بتهمة التنمر، نعم التنمر كما قرأت.
هذه الأغنية في الأصل لم تكن أغنية فيروز، بل ضمن الأغاني التي قدمها زياد الرحباني، إثر انفصاله عن مؤسسة الأخوين الرحباني (عاصي ومنصور)، وتأسيسه فرقة مسرحية قدمت أعمالا ناجحة منها مسرحية “سهرية” و”نزل البرد” و”بالنسبة لبكرا شو”.
في مسرحية “بالنسبة لبكرا شو” كتب زياد ولحن أغنية “ع هدير البوسطة”، والتي أداها المطرب اللبناني جوزيف صقر عام 1979.
ويقال إن عاصي أعجب بالأغنية فاشتراها من ابنه لتغنيها فيروز، وسرعان ما حققت الأغنية نجاحا كبيرا، إلا أنها لاقت هجوما أكبر في لبنان، فقد اتهم زياد بأنه يحرض على الخيانة الزوجية بسبب كوبليه (فيه واحد هو ومرته ولو شو بشعة مرته وحياتك كان يتركها تطلع وحدها ع تنورين ولو بيشوفوا عيونك يا عالية شو حلوين).
هكذا بكل بساطة، استنكرت فيروز بشاعة وجه المرأة ومرت الكلمة مرور الكرام، بل رآها البعض تحريضا على الخيانة وليس التنمر والسخرية.
إنه بالفعل دليل صغير جدا على اختلاف الأجيال، واختلاف الأفكار والسلوكيات بين جيل وآخر.
“ع هدير البوسطة” ليست الأغنية الوحيدة التي تحتوي إشارات قد تفهم على أنها تنمر، بل هناك الكثير، منها “ليلية بترجع يا ليل”، حين تقول فيروز “أنا مش سواد بس الليل سودني بجناحه”، لك أن تتخيل لو اشتهرت هذه الأغنية على زماننا، لقامت الدنيا ولم تقعد بين سود وبيض ولربما حوكمت الفنانة بسبب ذلك.
أكتب هذا وأنا أفكر في البحث عن بقية أغاني “فيروز المتنمرة”، التي وقعت في المقاهرة وتغنت بها، وأنت ما الأغنية التي تتأملها فتقول إن فيها تنمرا؟