أعمال فنية مجهولة النسب

تسمية الذكاء الاصطناعي ليست عبثًا. يجب أن نتعامل مع الأعمال الفنية التي سينتجها مستقبلًا بوصفها أعمالا مجهولة النسب، ضاعت أسماء الفنانين والمبدعين الذين أنجزوها.
الجمعة 2024/08/02
التمثال المستحيل.. عمل تم إنشاؤه حصريا باستخدام الذكاء الاصطناعي

الانتقادات الموجهة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الحقل الفني متعددة الأوجه، بعضها يمكن تبريره، وبعضها الآخر يصعب الحسم فيه. هناك مخاوف، مثلاً، من أن ينحرف الذكاء الاصطناعي إلى ممارسات غير أخلاقية أبرزها التمييز والتحيز. وهناك أيضًا جدل حول حقوق النشر، ومعالجة البيانات.

تشمل الاحتجاجات سياسات التدريب التي تعتمدها منصات التواصل والتي أثارت مؤخرا غضب أعداد كبيرة من الفنانين، طالبوا بمقاطعة وسائط التواصل الاجتماعي بذريعة أنها جمعت “بطريقة غير أخلاقي” بيانات الأعمال الفنية من مشاركين مختلفين، واعتبرتها مواد إضافية للمخرجات التي يصنعها الذكاء الاصطناعي.

وبلغة بسيطة تعود بنا إلى ما قبل الذكاء الاصطناعي؛ لو قبلنا الاحتجاجات المطروحة اليوم، لماذا لا نطبق نفس القانون على الفنانين الذين، على سبيل المثال، اقتفوا آثار سيزان، وهو الفنان الذي تأثرت به أجيال من الفنانين جاءوا من بعده. ومن نفس الزاوية، يصبح اكتشاف دافنشي للمنظور الهوائي اختراعًا يستحق عليه براءة اختراع، يمنع بموجبه جميع من أتوا بعده من استخدامه.

◄ علينا أن نعلم أن الذكاء الاصطناعي لن يكتفي بالعمل في ورشات المصانع وتنظيف البيوت وغسل الملابس، بل سيقتحم الحقل الإبداعي والفني. لقد صُمم للقيام بذلك

هذه المآخذ ليست هي ما يحرك الفنانين والمبدعين ضد الذكاء الاصطناعي، بل الخوف من أن يزيحهم جانبًا ويحل مكانهم. ومع صعوبة حسم الجدل حول حقوق الملكية، يتجه هؤلاء إلى حيلة أخرى للتشكيك بقيمة العمل الفني، ويقولون إن الأعمال المنتجة من قبل الذكاء الاصطناعي تفتقد إلى المشاعر والأحاسيس الإنسانية. وهذا أيضًا يتطلب الرجوع للوراء للتساؤل حول القيمة الفنية للعمل الفني. ما الغاية من الفن؟ وما هو الإبداع أصلاً؟

هل الفن حرفة نثبت من خلالها للعالم كم نحن مهرة، وكم نحن أذكياء؟ أم هو موقف من الحياة ومعاناة؟

ليس بالضرورة أن “يشقى الفنان لينتج فنًا ذا قيمة”. هناك أسماء كبيرة تفند هذه النظرية. وهناك من يرى أن الفن يحمل رسالة بغض النظر عن الفنان. فقط الفنان الأيديولوجي هو من يربط بين الفن والفنان برباط أخلاقي.

دعونا نوجه سؤالًا إلى معجبين بفنان ما، هل تقييمكم للعمل الفني نابع من إدراككم كم أن هذا الفنان متوافق أخلاقيًا مع ما ترون أنه صحيح؟

الربط بين العمل الفني ومعاناة أو أخلاقيات الفنان حيلة مبتذلة لدعاة الأيديولوجيا وتجار الفن. معرفتنا أن لوتريك الذي تسبب له حادث بشلل أدى إلى عدم نمو نصفه الأسفل لأعماله الفنية فبقي قصير القامة، هل تضيف إلى أعماله أية قيمة؟

بوكس

وبالمثل، معرفتنا أن غوغان كان بحارًا يعاشر النساء في جزر الكاريبي، وأن فان كوخ قطع أذنه وقدمها هدية لفتاة ليل وأنهى حياته منتحرًا، وأن مودلياني الذي لم يكن يمتلك ثمن الدواء، فاستعطفت صديقته أهله وبعد أن جمعت ثمن الدواء عادت إلى المنزل مسرعة لتجده قد فارق الحياة.. كلها معلومات لا تضيف أية قيمة فنية لأعمال هؤلاء الفنانين. إنها بهارات اعتاد أشباه النقاد إضافتها لإضفاء قيمة على أعمال الفنان.

لنفترض أن رواية ثلوج كلمنجارو وقعت تحت يدينا بالصدفة دون اسم الكاتب، هل سيؤثر ذلك على مدى استمتاعنا بالرواية وتقيمنا لها؟ اليوم تفوق رواية دون كيخوت مؤلفها شهرة؛ نحن نذكر دون كيخوت ألف مرة ونأتي على ذكر المؤلف (ثيربانتس) مرة واحدة.

أليست الإلياذة والأوديسة المشكوك في نسبها لهوميروس ملحمة عظيمة بغض النظر عن كاتبها؟ وإذا اختلفنا حول الأوديسة والإلياذة، فماذا عن ملحمة جلجامش وعن ألف ليلة وليلة؟ وماذا عن جداريات قدماء المصريين وبلاد النهرين؟ ألم يفرض الأدب الشعبي قيمته عبر السنين رغم نسبه المجهول؟

إذا اتفقنا أننا نتفاعل مع العمل الفني والإبداعي بغض النظر عن مبدعه، لماذا الإصرار على التعامل مع الذكاء الاصطناعي بعكس هذا المبدأ؟

قبل الخوض في المعركة التي فتحت بسبب أعمال إبداعية ينجزها الذكاء الاصطناعي، علينا أن نحدد في أي المعسكرين نقف. وقبل أن نتخذ هذا القرار علينا أن نعلم أن الذكاء الاصطناعي لن يكتفي بالعمل في ورشات المصانع وتنظيف البيوت وغسل الملابس، بل سيقتحم الحقل الإبداعي والفني. لقد صُمم للقيام بذلك، منذ أن تمت المراهنة عليه للفوز على البشر بلعبة الشطرنج.

تسمية الذكاء الاصطناعي ليست عبثًا. يجب أن نتعامل مع الأعمال الفنية التي سينتجها مستقبلًا بوصفها أعمالا مجهولة النسب، ضاعت أسماء الفنانين والمبدعين الذين أنجزوها.

12