أعمال حائرة بين اللوحة والقصص المصورة

الفنان السوري مجد كردية يمزج الجد بالهزل في لوحات مُستسلمة للحب تنبش في معان أكثر عمقا في داخلنا جميعا.
الجمعة 2019/10/25
حالة فنية عصية على القولبة

“فيا ليت أن الدهر يُدني أحبتي.. إليّ كما يُدني إليّ مصائبي”، هو بيت شعري لعنترة بن شداد يُودعه الفنان السوري مجد كردية في ركن لوحته المليئة بالشجن واللوعة والطرافة أيضا، ربما يكون مبعث هذه الطرافة أو الهزل نابع من طبيعة عناصره الذائبة في أجواء طفولية.. ومن هناك أتت مجمل أعماله المعروضة حاليا “فن إيه بورتيه” بدبي دعوة صريحة للاستسلام للحب.

يعرض مجد كردية جانبا من تجربته الفنية في قاعة “فن إيه بورتيه” بدبي حتى منتصف يناير القادم، وهي تجربة العرض الفردي الثالثة التي تستضيفها القاعة لأعمال كردية. ويقام المعرض تحت عنوان “استسلم للحب” وفيه يقدّم الفنان السوري شخصياته المألوفة وهي تتحرك على مساحات من الورق والقماش.

وتبدو شخصيات كردية أشبه بشخصيات الرسوم المتحركة، تتناوب الحديث والفعل والحركة على سطح اللوحة، وهي مرسومة في صياغات لونية مُبهجة يُبرزها الأبيض الناصع المحيط بها، كفضاء محايد بلا تفاصيل أو معالم.

بعد صوفي

أعمال بسيطة حد التعقيد
أعمال بسيطة حد التعقيد

يُطلق مجد كردية على شخوصه المرحة هذه أسماء أشبه بالأوصاف لا تقلّ غرابة بدورها عن أصحابها. “الفصاعين” هما صبي وصبية ضئيلو الحجم، وهو المعنى الذي يشير إليه الاسم في اللهجة السورية “فصعون وفصعونة” (صغير وصغيرة) يشاركهما ذلك الفضاء الرحب مجموعة أخرى من الشخصيات يطلق عليها كردية اسم العصابة. وبينما يتحرّك الجميع في هذا الفضاء الرحب يلامس حديثهم مشاعرنا ويتناولون في ما بينهم التعبير عن صراعات البشر وأحلامهم. هكذا تجمع لوحات الفنان السوري مجد كردية بين الجدية والهزل، أو بين الطرافة في منتهاها والحكمة في أعمق حالاتها.

غالبا ما ينشغل متابعو أعمال مجد كردية في وضع تصنيف ما لما يرسمه، إذ تبدو أعماله حائرة ما بين اللوحة والقصص المصورة. ربما يسعى البعض ويجهدون أنفسهم في تصنيفها على هذا النحو ضمن إطار ما.

واللافت هنا أنه إذا ما استقر رأيك حول تصنيف ما لهذه الأعمال سرعان ما يتبخّر هذا التصنيف أمام المحتوى البصري، المُحكم والمُنفلت في آن، كأنه يأبى الخضوع ضمن إطار أو نسق.

إن أعمال مجد كردية يمكن اعتبارها حالة فنية مستقلة بذاتها، حالة فنية عصية على القولبة أو الأسر ضمن إطار الموروث الفني الذي نعرفه، وهي تجربة مُلهمة تعزف على وتر المشاعر الإنسانية في حساسية مفرطة، وتنبش في معان أكثر عمقا في داخلنا جميعا.

كردية يرسم شخصيات غريبة الأطوار تحكي قصصا عن أنفسها وعن الحياة، وعن الصراع والحب والمشاعر الإنسانية

ويؤكد الفنان في تجربته تلك على اللمحة التعبيرية التي ميّزت أعماله، مع انحياز أكثر نحو اللون، ومن دون الاستعانة بالخطوط المحددة للشخصيات. كما يتطوّر استخدامه هنا للنصوص والعبارات الشعرية المُصاحبة، فيستعيض بالأبيات الشعرية والجمل الطويلة بأخرى قصيرة ومُقتضبة، فتطالعنا عبارات وجمل مثل “استسلم للمحبة، غلبني الشوق، أنت الذاكرة، أنت البصيرة، أنت تصب النور في صدري”.

وتستمر شخصيات مجد كردية الأساسية (فصعون وفصعونة) في تصدر المشهد، إلى جانب عصابة الحيوانات كالفيل والحمار والفراشة. تبدو هذه الشخصيات هنا وكأنها قد تحرّرت من هذا القيد أو هذه الخطوط المحددة لمسارها، وأنها قد بلغت أيضا درجة من البصيرة تجعلها أكثر قربا وتسامحا ورهافة.

ويترك كرديه خلفيات أعماله بيضاء تماما كما أسلفنا، كأنه يقول للمشاهد “لا يهمني من أنت أو أين أنت، كل ما يهمني هو أنت” تضطرم حركة العناصر وتتفاعل بألوانها الصريحة على هذه الخلفية البيضاء والحيادية كأنها تنبثق من العدم، فلا تترك لنا مجالا للهرب بعيدا عنها، وتشدنا إليها بوضوحها وصراحتها المُفرطة.

في أحد أعماله يقف فيل عملاق وهو يحتضن علما باللون الأبيض، بينما يتكوّر جذعه في حالة رومانسية، في حين تصوّب الفتاة الصغيرة أو “الفصعونة” كما يطلق عليها، سهما من الورود إلى قلبه. تشرح العبارة المصاحبة (استسلم للمحبة) طبيعة العلاقة بين الشخصيتين، وتزيل فكرة العدوانية التي قد تتبادر إلى الذهن حين نشاهد تصويب الفتاة للسهم. ثمة بعد صوفي هنا، فالاستسلام قد يعني أحيانا الخضوع لقوة أعلى أو أكبر، ويعني احتضانا أعمق المشاعر.

شخصيات غريبة

لوحات أشبه بالقصص المصورة
لوحات أشبه بالقصص المصورة

تعتمد ممارسات مجدي كردية في المقام الأول على المزج بين تقنيات التصوير والرسم مع النصوص القصيرة التي تجري على ألسنة شخصياته التي يبتكرها ويوظفها في معظم أعماله.

وعادة ما تتضمّن النصوص التي يأتي بها كردية على وجهة نظره الخاصة في ما يحدث حوله أو في ما يحدث في العالم، مع اهتمام واضح بالمشاعر الإنسانية، وهو يصوغ كل ذلك في أجواء رمزية ذات دلالة.

يرسم مجد كردية شخصيات غريبة الأطوار تحكي قصصا عن أنفسها وعن الحياة، وعن الصراع والحب والأمل والمشاعر الإنسانية المشتركة. وخلال السنوات الأربع الماضية تشكّلت معالم هذه التجربة واكتملت ملامح شخوصه التي يوظفها في شكل متكرّر في لوحاته، ليروي على لسانها ما يريد التعبير عنه. هو لا يروي من خلال هذه الشخصيات قصصا بالمعنى المباشر  للكلمة، لكنها مجرّد محاورات وتعليقات قصيرة تتضمن أبعادا شاعرية وعاطفية لها علاقة بالطبيعة الإنسانية بهشاشتها وقسوتها، وما يعتريها من تناقضات أخرى، ما يجعلها قريبة من الفهم والتفسير المتعدد.

“الفصاعين” الذين يرسمهم كردية دائما مبتسمون، على الرغم من الصعاب والمحن التي يواجهانها دائما. ومن هناك تبدو أعمال الفنان لأول وهلة كارتونية وبسيطة، لكن حين نتأملها جيدا سرعان ما ندرك مدى التعقيد الذي تنطوي عليه تلك العلاقات التي تنشأ بين الشخصيات، وما ترمي إليه تلك النصوص من معاني أعمق بكثير مما تبدو عليه.

“عصابة الفراشة الجميلة والمخيفة للغاية”، هكذا يسمي كردية مجموعة الشخصيات المصاحبة لـ”الفصاعين”.. المقابلة هنا بين الخوف والجمال والرقة التي تتمتع بها الفراشة هو أمر غالبا ما يثير الفضول والتساؤل والحيرة أيضا.

هكذا يتعرّض مجد كردية للعديد من الأمور القاسية والمعقّدة على نحو يتسم بالبساطة الشديدة والاختزال. ففي تلك المحاورات بين الشخصيات هناك دائما انحياز للمشاعر والقضايا الإنسانية العامة، إذ يبتعد الفنان السوري قدر الإمكان عن الشخصنة أو الإشارة إلى أحداث بعينها، هو يخاطب الإنسانية جميعا من خلال تلك المحاورات بين شخصياته، وهو يدهشنا في كل مرة بتكويناته الملوّنة، كما يدهشنا أيضا بهذه العلاقات التي ينشئها بين شخوصه على سطح اللوحة، كأن تتولّى عصابة الفراشة مثلا استبدال الأشواك المتناثرة على الطريق بالزهور الملوّنة، أو تُجري حوارا مع الشمس أو القمر أو الزهور والنباتات.

إن أعمال مجد كردية تمس ضمائرنا على نحو مفرط ومختزل، كما تلفت بصدق انتباهنا إلى هذه المشاعر والمضامين الإنسانية المشتركة بين البشر جميعا.

حالة فنية مستقلة
حالة فنية مستقلة

 

17