أعمال الفنان محمد منيصير كائنات هجينة تراوح بين حياة وأخرى

في أعماله المبكرة لم يكتف الفنان المصري محمد منيصير بالابتعاد عن المعنى الدال والعبارة الموحية، بل نأى كذلك عن الهيئة المباشرة للحرف، مكتفيا باستحضار النسق الحروفي لشكل الكتابة، كنسق عام لا ينتمي إلى ثقافة أو لغة بعينها.
في تلك الأعمال التي قدمها منيصير في بداية تجربته ثمة إيهام بصري بوجود ذلك النص المكتوب وحضوره الطاغي على سطح العمل، مضفيا عليه قدما لتبدو اللوحة أقرب إلى هيئة الرقاع أو المخطوطات القديمة. هي حبكة بصرية متعمدة تتركنا أمام حالة مغايرة من الحروفية العربية التي خاضها فنانون كثر على امتداد العالم العربي، بعيدا عن الشكل التقليدي لفن الخط العربي كما هو متعارف عليه، من توظيف الحرف كأحد العناصر البنائية داخل اللوحة، إلى الكتابة على الجسد وتوظيفه ضمن صياغات بنائية معاصرة.
اتجه الفنان هنا إلى فعل الكتابة في حدّ ذاته كسلوك إنساني وقيمة بصرية، قيمة تحمل ما تحمل من دلالات ورمزية خاصة مرتبطة بمسار التطور البشري، من الرسم على الجدران والصخور، إلى الكتابة على جلود الحيوانات والنباتات والأوراق، إلى ثورة الطباعة وما قدمته للبشرية من مجال رحب للتدوين. تحمل نصوص منيصير عبق كل هذه السنوات والقفزات التي خاضتها البشرية حتى الوصول إلى تلك اللحظة التي نشغلها حاليا بالنقر على أزرار لوحة المفاتيح لتتوالد الكلمات والأسطر خلف بعضها وفق نفس النسق القديم المدهش.
هو يلون بالأصباغ تارة، وتارة أخرى نرى اللون وقد تراجع مخلفا أثره على استحياء في هيئة بقع لونية تتداخل لتأكيد أثر الزمن. يغزل بالفرشاة والأحبار طبقات فوق بعضها من الأسطر المرسومة بدأب. ثم ما تلبث بعض الخربشات والعلامات التي تشبه الطلاسم في الظهور للربط بين الأسطر المنسابة بلا توقف. في مرحلة أخرى أضاف الفنان لتلك المساحات أشكالا متنوعة من الصور والرموز السحرية. لم يكتف منيصير ببث هذه الحالة الطلسمية من طريق مفرداته وعناصره المضافة، بل أمعن في تأكيدها والاحتفاء بها.
برزخ
اختار منيصير أن يطلق على معرضه الذي أقامه في القاهرة قبل ثلاثة أعوام تقريبا اسم “برزخ”، وهو اسم دال قريب الشبه بهذه الحالة البصرية التي يقدمها، فالبرزخ هو المكان الذي يفصل بين شيئين، وهو يُستعمل في علم الجغرافيا للدلالة على تلك المساحة بين مياه الأنهار والبحار، أو بين بحرين عظيمين يلتقيان في نقطة ما، وهو يفصل أيضا بين الحياة والموت. منيصير فنان شاب تشغله تلك المساحة الفاصلة بين الأشياء ويتوق إلى اكتشافها. يمكنك أن تلمح ذلك من خلال هذا التأكيد على رسم الدائرة وحضورها الدائم في معظم أعماله السابقة، الدائرة هنا هي المقابل لصيرورة الوجود واستمراريته، حيث المفردات والعناصر تتحرك في دوائر ومسارات لا نهائية. هو يحاول اكتشاف هذه الحدود الفاصلة التي لا تبدو ملامحها ظاهرة. أعماله مزيج من البحث والتأمل البصري في المساحة وفي الحياة أيضا.
أحلام تحنيطية
في معرضه الأخير الذي أقامه في مركز تاون هاوس للفنون في القاهرة تحت عنوان “أحلام تحنيطية”، وفي سبيل بحثه المستمر حول فكرة الحياة والموت، يفاجئنا محمد منيصير بتشكيلة مختلفة من المفردات والعناصر المقحمة على بنيته البصرية. بعض هذه المفردات التي تعامل معها الفنان لأول مرة بدت صادمة، فمنها ما كان مختلفا عن السياق العام لتجربته ككل، وبعضها الآخر كان له حضور صارخ ومباشر في ما يتعلق بالفكرة. بين هذه العناصر التي استخدمها الفنان أشرطة فيديو وصور ورسوم ومجسمات وأعمال تركيبية، بالإضافة إلى مجموعة مختلفة من عظام الحيوانات والرؤوس الحيوانية المحنطة.
يلفت انتباهنا بين هذه التركيبات جسد ضخم بطول عشرة أمتار مسجى على أرضية القاعة لكائن له جسد إنسان ورأس حيوان. مشهد الجسد وهو ممدد على أرضية القاعة وسط إضاءة خافتة كفيل ببث الرهبة في نفس الرائي. يمعن منيصير في تأكيد هذه الأحاسيس المتوترة بعرضه ثلاثة مجسمات لكائنات أخرى هجينة تنتصب إلى جوار بعضها في قاعة قريبة، وتبدو كأنها في حالة انتشاء طقسي راقص. في الجوار ثمة حامل خشبي يحمل عظاما لحيوانات نافقة مختلفة الأحجام. وبينما تهم بمطالعة المساحات القماشية المرسومة والمعلقة في منتصف القاعة تقتحم ناظريك شاشة عرض مخبأة خلف هذه المعلقات القماشية في تعمد مقصود للمباغتة، تعرض الشاشة شريطا قصيرا مكررا لكلب أسود يحدق في شراسة أمام الكاميرا. يربط بين هذه التشكيلات التي أنشأها الفنان وفق صيغ تركيبية في فراغ القاعة رسوم كثيرة مستوحاة من كتاب “كليلة ودمنة” عرضت على حامل دائري.
هذه العناصر التي تجمعها مساحة عرض واحدة ليست هي آخر المطاف، إذ يقدم الفنان عرضا آخر يشغل حيز القاعة الكبرى بكاملها في الدور الأرضي. تضم المساحة الأخرى خمسة أجهزة عرض تعمل بالتتابع، ويُعرض محتواها على شاشات قماشية متجاورة، مشهدا مكررا لفتى صغير يحاكي أصوات الحيوانات والطيور. في خلفية الشاشات وضع الفنان مجسمات مختلفة لحيوانات بالحجم الطبيعي، مراعيا ألا يرى المشاهد من هذه المجسمات سوى ظلها الذي يظهر منعكسا على خلفية الشاشة القماشية.
يستوقفنا هنا ذلك الحشد المربك بصريا لمجموعة العناصر والمفردات المشكلة لهذا العمل، كأن الفنان أراد جمع كل ما يملكه من صور، وما يحمله من أفكار في مكان واحد، أو بالأحرى في عمل واحد كبير ومتشعب. لا يفوتنا أيضا ذلك التضمين الخفي لفكرة السلطة، في احتفائه على نحو خاص بالرسوم المستوحاة من كتاب كليلة ودمنة، وهو في الأصل ليس سوى حيلة أدبية لجأ إليها صاحبها اتقاء للعقوبة. يحتال الفنان هنا أيضا في عرض فكرته على نحو غير مباشر، فهو يُضّمن الأشكال والتكوينات التي أنشأها بمعان مباشرة، وأخرى خافية لها علاقة بالتأويلات المختلفة لفكرة الخلق وطبيعة الوجود. على جانب آخر تبدو هذه المراوحة بين الضدين: الحياة والموت، والانتقال من حال إلى أخرى أو من طبيعة إلى غيرها هي السمة المسيطرة على ذلك المشهد البصري المفكك، والذي يضعنا مباشرة في مواجهة حالة مربكة من عدم اليقين تلقي بظلالها على هذه المعالجات جميعا.
محمد منيصير من مواليد عام 1989، وهو فنان يعيش ويعمل في القاهرة. تخرج من كلية التربية النوعية، وشارك بأعماله في العديد من المعارض الجماعية التي أقيمت داخل مصر. أقام معرضه الفردي الأول في قاعة كمال خليفة في مركز الجزيرة للفنون بالقاهرة عام 2013، ثم تبعه بمجموعة من المعارض الفردية الأخرى، نذكر منها على سبيل المثال، برزخ، وصمت.