أعمال أدبية عربية قادمة من ملفات أجهزة المخابرات

ياسر الغبيري: الرواية المخابراتية وليدة خيال المؤلف وملفات أجهزة المخابرات.
الأربعاء 2024/11/27
رأفت الهجان أشهر شخصيات الروايات المخابراتية

لم يأت مسلسل "رأفت الهجان" من فراغ، بل سبقه توجه كامل في الكتابة خاضه مؤلف المسلسل نفسه صالح مرسي في روايات سميت بالروايات المخابراتية، وهي أعمال تقف بين التاريخي والخيالي لكن أهدافها تتجاوز مجرد القصص المثيرة والمشوقة إلى ما هو أعمق، في ترسيخ دور الانتماء ومقاومة أي عدوان وغيرها، وهذا ما يكشفه بحث جديد للكاتب ياسر الغبيري.

تشكل أهمية أطروحة الكاتب والإعلامي ياسر الغبيري “وظائف السارد وتكوين الشخصية في الرواية المخابراتية.. صالح مرسي نموذجا”، والتي نال بها أخيرا درجة الماجستير في النقد الأدبي، انطلاقا من كونها أطروحة نوعية في مجالها، حيث ترصد وتناقش وتحلل الإسهامات الأدبية في حقل الرواية المخابراتية المصرية ما قبل الأديب مؤسسها الروائي صالح مرسي.

تتناول الدراسة في جانبها التطبيقي تحليل خمس روايات مخابراتية، كتبها مرسي في أوقات قريبة نسبيا، وهي “الحفار، ورأفت الهجان، ودموع في عيون وقحة، وسامية فهمي، وقاتلة باردة الأعصاب”، وجميعها روايات ترصد بطولات رجال وسيدات مصريين ومصريات، نفذوا عمليات مشرفة، وضحوا بأرواحهم لنصرة بلادهم، كما تقدم تأصيلا للصراع العربي الإسرائيلي في مراحله المبكرة منذ ما قبل العام 1948، وصولا إلى ما بعد نصر أكتوبر المجيد، عدا رواية “قاتلة باردة الأعصاب” التي تتحدث عن عميلة مخابراتية سوفييتية أرسلتْ إلى كندا عبر بريطانيا، لتنفيذ عملية مخابراتية محددة على أرض كندا، لصالح بلادها، التي تناولها البحث لأول مرة في دراسة أكاديمية.

التاريخية والمخابراتية

ياسر الغبيري: الرواية المخابراتية تعزز الهوية الوطنية وروح التضحية والفداء
ياسر الغبيري: الرواية المخابراتية تعزز الهوية الوطنية وروح التضحية والفداء

حول أوجه التشابه بين الرواية المخابراتية والروايتين التاريخية والبوليسية يرى الغبيري أن ثمة تشابها بين نشأة الرواية التاريخية في العالم العربي، وبدايات التأسيس للرواية المخابراتية كنوع أدبي جديد على ثقافتنا العربية، فإن كانت المحاولات الأولى لإرساء قواعد الرواية التاريخية ـ وفق محمد يوسف نجم ـ لسليم البستاني، فالمحاولات لإرساء قواعد الرواية المخابراتية في أدبنا العربي كانت لماهر عبدالحميد.

ويبين أنه كما برع جرجي زيدان وتميز في مضمار الرواية التاريخية معتمدا على تناول التاريخ الإسلامي تحديدا للحد الذي دعا النقاد لوصفه أبا مؤسسا للرواية التاريخية؛ فإن صالح مرسي برع في تقديم الرواية المخابراتية، حيث قدم أعمالا روائية لا تقل عن تلك التي قدمها كبار الأدباء في أوروبا وأميركا، وحظيت بشهرة وانتشار كبيرين، لا يقلان عن شهرة وانتشار روايات جرجي زيدان التاريخية، لذى دعي صالح مرسي برائد الرواية المخابراتية العربية.

يلفت الباحث إلى أن الرواية التاريخية نشأت في مطلع القرن التاسع عشر، وذلك زمن انهيار نابليون تقريبا، يمكن العثور على روايات ذات موضوعات تاريخية في القرنين السابع عشر والثامن عشر أيضا، ويستطيع المرء إذا ما أحس ميلا في نفسه إلى ذلك، أن يعتبر الأعمال القروسطية المعدة عن التاريخ الكلاسيكي أو الأساطير أو مقدمات للرواية التاريخية، وهي في الحقيقة تعود إلى ماض أبعد حتى تبلغ الصين أو الهند. إلا أن المرء لن يعثر هنا على أي شيء يلقي ضوءا حقيقيا على ظاهرة الرواية التاريخية.

وليست روايات القرن السابع عشر المسماة بالتاريخية، تاريخية إلا فيما يتعلق بالاختيار الخارجي الصرف للموضوع والأزياء. وقد لاقت الرواية التاريخية رواجا كبيرا منذ نشأتها في الوطن العربي، ونالت الكثير من إعجاب القراء وترحيبهم، لما تحمله من روح الفخر بالماضي، والعزف على وتر الحنين إليه، وتعرضت للكثير من التغيرات والتحولات الموضوعية والفنية منذ نشأتها إلى اليوم، إلا أنها ظلت وفية للتاريخ الذي يعد أهم رافد نهل منه الكتاب واستعانوا به في إنتاج عدد مهم من الروايات التاريخية، التي تستلهم الماضي وتستدعيه لأغراض متعددة.

الرواية التاريخية ليست تاريخا خالصا محققا يرجع إليه، ويوثق به، ويعتمد عليه، ولكنها مع ذلك تستمد مادتها من التاريخ، وتؤثر في فهمنا له، وطريقتنا في عرض حوادثه، وسرد أخباره، وتصوير شخصياته، وأعظم الروايات التاريخية وأدلها على قوة الخيال وإجادة البحث والاستقصاء لا تغني غناء التاريخ، ولا تقوم مقامه، وقد لا تتناول حوادثه المأثورة إلا عرضا، وقد تحاول أن تصف مواقف معينة أشبه ما ورد في التاريخ، ولكنها ليست المواقف التاريخية بنصها وقصها وخيرها وشرها، وقد تعرضها عرضا بلاغيا وتفسرها تفسيرا فنيا يلائم أهداف الرواية التاريخية ويوافق وضعها وجوها.

الدراسة تتناول في جانبها التطبيقي تحليل خمس روايات مخابراتية، كتبها مرسي في أوقات قريبة نسبيا

يؤكد الغبيري أن الرواية التاريخية ظهرت في أدبنا في إطار شعبي حيث كانت تحكي قصة عنترة، وسيف بن زي يزن، والزير سالم وغيرها، وهذا اللون من الرواية فيه من الخيالات أكثر مما فيه من الحقائق. ومن ثم أخذت الرواية التاريخية طريقها في أوروبا على يد عدد من الكتاب كان أبرزهم ألكسندر دوماس، ثم راحت تتطور وتترقى حتى نضجت عند الكاتب الإسكتلندي والتر سكوت. ويعد سكوت أستاذ الكتاب جميعا في هذا اللون من ألوان الأدب التاريخي ورائدهم الأول دون منازع، فهو واضع أساس الرواية التاريخية الفنية، ومعظم من جاؤوا بعده اهتدوا بهديه، وضربوا على قالبه، وكانوا من تلامذته وأتباعه.

ويعد جرجي زيدان أول من أنشأ الرواية التاريخية العربية الحديثة، إلا أن محمد يوسف نجم في دراسته “القصة في الأدب العربي الحديث” يشير إلى أن سليم البستاني صاحب أول محاولة في كتابة هذا اللون من الأدب، بكتابته قصتي “زنوبيا” و”الهيام في فتوح الشام”، إلا أن زيدان تفوق عليه بذياع صيته، وكثرة إنتاجه، وتناوله العميق لحوادث التاريخ الإسلامي.

ويتابع “كان للروايات التاريخية أثر محمود في ترويج التاريخ وتقريب حوادثه إلى الأفهام، وأكثر الناس يملون قراءة كتب التاريخ الجافة المملوءة بالحوادث المملة والأخبار المتشابهة الرتيبة، فالكثير من المؤرخين قد يجيدون في البحث والتحري ويبذلون جهدا جبارا في جمع الأخبار، وحشد المعلومات، ولكنهم يعرضونها عرضا مملا يغري الناس بالزهد في قراءة التاريخ والوقوف على حوادثه وأخباره. واعتمد جرجي زيدان في سرده للرواية التاريخية على أحداث التاريخ وشخوصه، وتبعه الكثير من المؤلفين مثل: فرح أنطون، وعلي باكثير، وسعيد العريان، وفريد أبوحديد، وعباس خضر.. وغيرهم، والرواية التاريخية بطبيعتها ليست إبداعا أدبيا أو فنيا كاملا نظرا إلى أن أسانيدها وروافدها الرئيسية مسطورة في كتب التاريخ، فالمؤلف لا يبدعها، أو يختلقها، ولا ننكر قدر الاختراع فيها، وجهد القاص وبراعته في الإضافة إلى الحدث وإدخال الشخصيات الثانوية أو المساعدة لتتلاءم الأجزاء وتتلاحم المشاهد.”

الرواية المخابراتية تمزج المعلومات الحقيقية بالخيال لتقديم بناء فني متكامل تختفي فيه الحدود الفاصلة بين الواقع والخيال

ويرى الغبيري أن الرواية المخابراتية – من ملفات أجهزة المخابرات – لا تختلف كثيرا عن الرواية التاريخية في استقاء موضوعها من كتب التاريخ؛ فالرواية المخابراتية يعمل فيها خيال المؤلف إلى حد كبير، لكنها تقوم بالأساس على المعلومات التي حصل عليها كاتبها من جهاز المخابرات الذي يتعاون معه، وهو ما أكده صالح مرسي بقوله “البعض يظن أن كل ما يفعله الكاتب في مثل هذا النوع من القصص المخابراتية، أنه يستمع ما يملى عليه، أو يقرأه من الملفات الخاصة بهذه القضية أو تلك، ثم ينكب على الورق كي ‘ينقل‘ ما سمعه أو قرأه إلى الورق، وهذا في واقع الأمر بعيد عن الحقيقة بعد السماء عن الأرض.”

وقال إن “لهذا البعد أسبابا عديدة وهي: أولا: أي جهاز مخابرات في العالم، حتى تلك الأجهزة التي تصرح بكتابة تسجيلية، تسجل الحدث أو القضية أو العملية كما حدثت ووقعت دون بناء درامي أو خيال من أي نوع، من المستحيل أن تبوح بكل شيء، فهناك دائما تلك الأسرار التي مهما مضى عليها من زمن، ومهما تنوعت النظرة إلى الموضوع، لا يمكن التصريح بنشرها بأية وسيلة من وسائل النشر بمعنى أن أي جهاز مخابرات عندما يعلن عن إحدى عملياته، أو يصرح بنشرها، فهو يعلن عن الخطوط الرئيسية فقط، أو يبوح بما يمكن أن نطلق عليه الهيكل العظمي للعملية.”

وأضاف “ثانيا: هناك أمور حتى لو اطلع عليها الكاتب يصبح مطلوبا منه أن يسدل عليها ستارا من السرية وحماية للهيكل، أو إخفاء لمعلومات لا ينبغي الإفصاح عنها، وهنا يصبح على الكاتب أن يجد البديل الذي يحل محل هذا الأمر أو ذاك، وهذا البديل يكون في الواقع خيالا صرفا، ولكنه خيال نابع من الواقع، متصل به اتصالا وثيقا، وهناك صعوبة كبيرة تواجه كاتب هذا اللون من الأدب تتمثل في القدرة على مزج المعلومات الحقيقية بالخيال لتقديم بناء فني متكامل، بحيث تختفي الفصول الفاصلة بين الواقع الذي حدث والخيال المضاف إليه ليصبح الكل بناء واحدا متكاملا أمام القارئ أو المشاهد، بحيث يذوب الخيال تماما.”

وظائف سردية

في العالم العربي ثمة تشابه بين نشأة الرواية التاريخية وبدايات التأسيس للرواية المخابراتية كنوع أدبي جديد

بعد دراسة وظائف السارد وتكوين الشخصية في روايات الأديب صالح مرسي سابقة الذكر، توصل الغبيري إلى: أن السارد اضطلع في تلك الروايات المخابراتية بمجموعة من الوظائف التي لم تعرض لها أو تقدمها أي من المدارس النقدية سابقا، بسبب طبيعة الروايات وخصوصية موضوعاتها والقضايا التي تناقشها، ولعل أبرزها وأهمها وظائف “ترسيخ أنماط الهوية الوطنية، وتعزيز روح التضحية والفداء، والتحذير من خطر الجاسوسية والتجنيد لصالح العدو، وإبراز الدور الوطني لرجال المخابرات المصرية، والتأصيل لقضية الصراع العربي الإسرائيلي، وتقديمها للأجيال المختلفة عن طريق الروايات محل الدراسة لتكون مرجعا أدبيا وتاريخيا ورصدا لطبيعة الصراع في فترة زمنية مهمة وحساسة من عمر الوطن، والإسهام في إعداد جيل من الشباب على قدْر من العلم والوعي والحذر من مكائد ودسائس العدو التاريخي، ليكون متأهبا ومستعدا لمواجهته على الدوام.”

وتناول الباحث وظائف السارد في رواية “الحفار”، إذ غلبت عليها الوظيفة التحليلية والوظيفة التوثيقية والوظيفة الاستفهامية، وكانت الوظيفة السردية الإخبارية هي الوظيفة الرئيسة التي تداخلتْ مع وظائف السارد كافة. وفي رواية “رأفت الهجان”، اضطلع السارد بوظائف التفسير والتحليل، والاستفهام والتعليم طوال العملية السردية، وارتبطت هذه الوظائف بالسارد العليم المحلل للأحداث من الداخل والمعقب عليها. أما في رواية “دموع في عيون وقحة”، فقد اضطلع السارد بعدد من الوظائف خلال تموضعه، (ساردا كلي المعرفة مراقبا من الداخل) وهي التقنية الوحيدة التي اضطلع بها السارد في الرواية. وفي رواية “سامية فهمي”، اضطلع السارد خلال تموضعه كونه ساردا كلي المعرفة بالوظيفة السردية الإخبارية، ونظرا إلى إسهابه في سرْد الأحداث تقلص ظهور الوظائف السردية الأخرى بوضوح. أما في رواية قاتلة باردة الأعصاب، اتخذ السارد وضعية السارد كلي المعرفة المحلل للأحداث من الداخل منذ بداية العملية السردية.

وجد الغبيري أن صالح مرسي صور شخوص رواياته ورسم أبعادها المختلفة بطريقة جعلت الشخصيات تبدو للقارئ وكأنها شخصيات حية وليست شخصيات روائية على الورق. كما أن شخصية المرأة كانت حاضرة مقارنة بشخصية الرجل في روايات صالح مرسي المخابراتية، ورسم السارد أبعادها معتمدا على التقنيات السابقة، وكان لها في العمل الوطني مثل ما للرجل، وقدمها السارد بصورة تؤكد براعتها وتفوقها .ومن جانب آخر ركز السارد على أدق التفاصيل الداخلية التي تؤرق شخصيات الروايات، وتلك التفاصيل التي أبرزت ميول واهتمامات ولحظات تحول الشخصيات، كما اهتم السارد في تقنية التعميق بإبراز حجم التهديدات أو المغريات التي واجهتها شخوص رواياته، ورغم هذه التحديات؛ فإنهم انحازوا إلى الوطن، وقدموه على كل المغريات.

أيضا يرى ياسر الغبيري أن المؤلف (صالح مرسي) ظهر أكثر من مرة خلال العملية السردية بصوته لتأكيد بعض المواقف، أو توضيح بعض التفاصيل التي عاصرها أو كان شاهدا عليها، وأخيرا قدم المؤلف شخصيات رواياته، لاسيما الشخصيات الوطنية كونها نموذجا يحتذى به وقدوة للشباب، لتحفيز الجانب الوطني لديهم، كما تناول العمليات المخابراتية التي جاءت في الروايات محل الدراسة والبحث بطريقة تكشف عن حجم تضحيات وجهد الرجال الذين يعرضون حياتهم لخطر داهم ودائم، ويبذلون أرواحهم للدفاع عن الأمة، والذوْد عن الوطن، والحفاظ على المقدرات والأرواح والتصدي لعدو متربص وصد أطماعه التوسعية، وإفشال مخططاته التخريبية.

12