أشخاص عراة يتمرّدون بصمت أمام المرايا ويزعزعون اليقينيات والمعتقدات السطحية

آني كوركدجيان تفكك اللاوعي وتسير به إلى أقصى منافذ التطرف التعبيري.
الأحد 2022/04/17
تعرية الحرب من خلال الأجساد

منذ عمر السنتين فتحت التشكيلية اللبنانية آني كوركدجيان عينيها على مشاهد الحرب في لبنان وعلى الهوس الجنوني المسكون بالحرب والدم. ولدت لترى الناس وحوشا تنهش لحم بعضها بعضا، دونما رحمة. من تلك العوالم القاتمة الراكدة في قاع ذاكرتها قدمت أعمالا فنية متعددة مستحضرة شخوصا مختلفي التشكلات والتشوهات والكيانات لعلهم ينجحون في علاج ماضيها المشحون بالخوف والتوجس. ولم تشذّ في معرضها الجديد عن مسارها السابق، لكن هذه المرة تختار لشخوصها وجودا أكثر صداما من خلال عريها أمام المرايا.

تعرض التشكيلية اللبنانية أني كوركدجيان لوحاتها الجديدة في غالري “LT لبنان”، وبعد غياب أربع سنوات عن العرض تعود لتحيا مجدّدا بفنّها وتحيي بلدها بتجربتها إذ تقول “أعود بعد أربع سنوات لأعبّر عن لبنان وعن نفسي لوحاتي أيضا تقول ما زلت على قيد الحياة وما زال لبنان حيّا”.

في هذا المعرض تأخذ كوركدجيان المتلقي كعادتها إلى عوالمها المثيرة والمُظلمة والجريئة والصادمة كما سيراها متلقيها والصادقة كما تقول عنها هي.

تسرد حالاتها بين عزلتي الجسد والذاكرة والتذكّر باستفزاز صادم وفجّ تلهو فيه بين هشاشة شخوصها وواقعها الداكن.

آني كوركدجيان: الإيروتيكية هي المرحلة التي تجعلنا صادقين أمام ذواتنا بلا زيف ولا تصنع وهذا الإطار يساعد على التعبير الصادق عن وضع الإنسان

وتُحاول آني كوركدجيان الرقص على مثيراتها بين الغواية واللهو والعنف والقسوة، تناقض مُشبع بالتوجّس والخوف والتفكك المتلاحم بصدامات مؤلمة تجمع الجسد وتناقضاته المطروحة على فكرة الشفافية والنفاق المُجسّد في العنف المُقنّع للمجتمع والواقع بين الرضوخ والاستسلام والهروب تحت غطاء التقاليد.

“الجديد في هذا المعرض هو القيمة المبنية أولا على تحدي ظروف لبنان وصعوبة الحياة هنا واستقبال الواقع بمرارة قادرة على دفع النور رغم انعدام ‘الكهرباء‘ وهي في حدّ ذاتها تحديات صعبة للاستمرار في الحياة فكيف بالاستمرار في إنتاج الفن”.

والجديد أيضا في هذا المعرض، كما تقول، هو النضج في التعاطي مع الفكرة والتوافق مع الوقت والقدرة على تفكيك اللاوعي والسير به إلى أقصى منافذ التطرف التعبيري التي يراها المتلقي “إباحية مستفزة”، وهنا لا أقدر على تفسير معنى الإباحية لأنها بالنسبة إليها حرية وزاوية تعبير لأن الإيمان بالفن هو إيمان بالحرية المطلقة وبالرمزيات المعبّرة البعيدة عن الإسقاط، ولا تعتقد أن رسم الجسم وتفاصيله وأعضاءه يصبح إباحيا أو فجّا، معتبرة أن الحكم بالإباحية مُسبق بشكل سطحي يختلط معه التفسير الفني بالأخلاقي.

التمرّد بصمت

لا تؤمن آني كوركدجيان بأن ذاكرة الحرب قادرة على أن تمحو الذكريات السيّئة بقدر ما تؤمن بأن الإنسان في الحرب هو اكتمال الوجع في تشوه الواقع، وتلك المفارقة هي التي تجعل من شخوصها عراة أمام مراياها لهم الحرية المُطلقة في خوض تفاصيلهم بصدق والتعالي على الواقع فهي تحوّل ما يُفعل في العتمة إلى الضوء لتزيح أقنعة الزيف وغبار التصنّع.

تجيد الفنانة اللهو بأجساد شخصياتها وتمريغ العادات البائسة في وهم تقاليدها، لتكسر حواجز المعنى وتطلق دوافعها الإنسانية حسب نفسياتها وحالاتها وكل مزاج انفلت منها في عتمة ترحالها بين الأمكنة والأزمنة.

إزاحة أقنعة الزيف وغبار التصنّع
إزاحة أقنعة الزيف وغبار التصنّع

“إن المواضيع المحرّمة في المجتمع هي مواضيع تحتاج إلى إعادة نظر، التابوه مهم في المجتمعات ويجب أن يحترم ولكن هل يحترم التابوه عندنا حقوق المرأة فلا يؤذيها نفسيا اجتماعيا دينيا معنويا؟ هل يُحاول أن يقدّم لها قوانين تحميها بدل من ‘بهدلتها’ بالكثير من التجاوزات التي لا تحميها ولا تحمي أبناءها؟”.

من خلال تصوراتها السريالية والتعبيرية انحدرت بشخوصها إلى الدرك الأسفل لتُخرجها من طفولة حرب مُضطربة الأحداث تشحنها الصدمات وتمزّقها كما مزّقت وتُمزّق بلدها وتضطرها أيضا إلى أن تُمزّق في نفس الوقت لا وعيها الذي تسرّب عبر الورق والقماش، فهي ومنذ سنوات تحاول التجريب من خلال الرسم بخلق تفاعل بين الألوان وهي تجهّزها لاستقبال المزاج المعلن والخفي بين وهم الانتظار والترقب الذي يستقبل فلسفتها البصرية المثيرة للتفكير والجدل.

فقد جهّزت في معرضها الجديد بكل ما أوتيت من أحاسيس وخامات وانفعالات وألوان وخطوط وفضاءات لتصقل شخصوها وتحرّضها على التمرّد بصمت نفسي صاخب، لتتشابك الآلام والمُتعة وتتوافق مع موضوع معرضها LUDIQUE وكأنها تحاكي طفولة تمرح وتلهو بأقلامها يتسع معها الخيال الفني الناضج ويقفز من تهيّؤات الطفولة إلى مساحات غير مُعلنة في مناطق الألم التي تخزّنها الذاكرة.

فرغم الحالات التي تختلج الشخوص والظهور العاري وما يستثيره الجسد من حركات وتفاعلات عنيفة ومتطرّفة على عنفها الطاغي على المشهد الفني في تصوراتها الراسخة على جسد مكبّل أو أعضاء مبتورة أو مشوّهة، لا تفسّر كوركدجيان التوجه المثير للجسد كما يُرى لأنها تشكّله بصدمة الصدق لتغيير التفكير في أن كل جسد عار هو تعبير معلن عن الإثارة، بل هو وحسب رؤية الفنانة حالة من العري المعنوي والعاطفي الذي يحمي فكرة الجسد وقدسية الإثارة وعلاقتها بالجمال والحياة.

تحوّل الفنانة العري في رؤاه البصرية إلى توجّه فكري وفلسفة تصف حالة الوهم المثير وغير المكتمل مع الإثارات التي تعنّفه حسيا ومعنويا وكيانا يحاول أن يعبّر بحرية تبحث عن التجرّد في الإنسانية، فالفن قادر على استيعاب الحالات والعلو على كل شيء على الحرب وعلى المجتمع وعلى الجحيم المتوافق في اجتماعهما.

الهوية البصرية

فلسفة بصرية مثيرة للتفكير والجدل
فلسفة بصرية مثيرة للتفكير والجدل

تتميز كوركدجيان بالنظرة الثاقبة لمواضيعها الغريبة، وهي تصوّر الجسد في مواقف مختلفة ومقنعة، كل منها ينبعث من عاطفة كثيفة بين السلبية والجمود والإيجابية والحركة تتماهى بين الخزي والخوف والغضب واليأس الذي يحتل كل شيء في الطيف الداخلي الساكن في الشخصيات وفي نفوس المتلقي مهما اختلف منطقه في تفسير الأشياء.

تقول الفنانة “في لوحاتي الجديدة حاولت أن أدمج قضية الحيوان مع قضايا الإنسان نفسه لأن الرمزية التعبيرية بين هذا وذاك تجعلني أرسم الأشياء التي أحب ربما لأني أرى أن الحيوان يشبهنا أيضا ويشارك معنا الوجود والواقع وبما أن الحيوان له وجه له عيون معبّرة يمكن من الناحية الفنية تكوين إسقاطات تعبيرية كثيفة عليه فهو رمز للحزن للقوة تعود حتى مع تاريخ الفنون القديمة والأساطير وغيرها”.

تتميز الفنانة بنظرة ثاقبة لمواضيعها الغريبة وهي تصوّر الجسد في مواقف مختلفة كل منها ينبعث من عاطفة كثيفة

حاولت كوركدجيان في تصوراتها البصرية محاكاة الجرأة بطريقتها وهي تستعيد منهج غوستاف كوربيه لترسم منهجها الخاص وأسلوبها باستفزاز مُتحرّر استطاعت من خلاله أن تتحرّر من الألم المترسّخ في ذاكرتها وتجرّد نفسها من قيود التعامل المُقيّد للجسد ومن تفاصيل التغاضي عن الإثارات الجنسية في تعابيرها الصادمة لمعايير المجتمع التقليدي الضيّق.

وتضيف “الإيروتيكية هي المرحلة التي تجعلنا صادقين أمام ذواتنا بلا زيف ولا تصنع وهذا الإطار يساعد على التعبير الصادق عن وضع الإنسان في الحياة عن معاناته وتخبّطه مع كل هذه التراكمات فطبيعي أن تتعرّض الأجساد التي أرسمها لكل هذا العنف والقسوة والتمزيق حتى أعبّر عن الواقع بحرية حقيقية، خاصة وأن الفن وحده الباقي بصدق لديّ أمام كل هذا التوجس والخوف والأفق الضبابي في لبنان منذ صغري وأنا أعاني الحرب ولا ملاذ لي غير الورق والقلم للرسم والتعبير حتى لا تتراكم لديّ مشاهد العنف في الذاكرة بل أمزّقها بكل سوادها داخل كادر اللوحات والأوراق”.

تحمل آني كوركدجيان ذاتها وحركتها وأدواتها الحادة والمتمرّدة لتمزّق المحرّمات وتوسّع الأطر الضيّقة في التعامل السطحي مع عوالم الجسد وكيان المرأة وكأنها مجرّد حالة لهو تلغي دورها الأساسي في صناعة الهوية البصرية التي اختارتها، ففي هذا المعرض استطاعت أن تكتسب الحكمة والثقة وتستمر أبعد بفكرتها للتخلص من الزيف مع الحفاظ على الأسس الأولى لأعمالها التي تستنطق صمت المجتمع وتستدرجه ليفكر.

13