أسوأ أشكال الوحدة
نختلف جميعا في طريقة إدراكنا لهذا العالم وفهمنا لطبيعته وهذا الأمر هو الذي يحدد ماهية اتصالنا بالآخرين ومحاولة فهم طريقة تفكيرهم ودوافع سلوكاتهم تجنبا لمأزق الوقوع في سوء الفهم.
نعاني في أغلب الأحيان من صعوبة تقدير الدوافع والأسباب التي يتصرف على وفقها أناس في محيطنا الاجتماعي، فتردنا إشارات خاطئة من قبلهم في أوقات ومواقف معينة نعجز عن تفسيرها أو نؤولها بصورة معاكسة تماما لنواياهم الحقيقية، ومن هنا ينشأ سوء الفهم الذي يستدعي ردود أفعال متشنجة قد تتصف بالعنف اللفظي أحيانا في الوقت الذي لا يتطلب فيه الأمر ذلك.
لكن المفارقة هو أننا أنفسنا قد نشكو من كوننا لم نفهم كما يجب، أو أن مقاصدنا لم تدرك من قبل الآخر بشكلها الحقيقي وقد نسمع من بعضهم عبارة مزعجة مثل “أنت تتحدثين بلغة لا أفهمها”، وهذا هو سوء الفهم في وجهه الآخر.
في إشارته إلى هذه الإشكالية، كتب الروائي الأميركي دان براون يقول “أنا أعرف معنى الوحدة.. فأسوأ أشكال الوحدة هو العزلة التي تنجم عن سوء الفهم. بإمكان هذا الشعور أن يجعل الناس يفقدون إحساسهم بالواقع”.
ولعل ما يزيد سوء الفهم عبثية في ما يتعلق باللغة المنطوقة والمكتوبة على حد سواء، هو علاقة الكلمات بالمعنى والغاية والأخطاء غير المقصودة التي ترد سهوا مع تعدد المعاني في مدلولات الكلمات أو استخدام مصطلحات أجنبية بلغة غير مفهومة للطرف الآخر، كما هي الإيماءات والرسائل الجسدية التي تخفق أحيانا في إيصال المعنى بل وتثبط مهمة الكلام.
في العوالم الافتراضية ومع ما تقدمه التقنية من بدائل الاتصال عن بعد، أصبح سوء الفهم هو القانون السائد وسط سلسلة معقدة مشوشة ومربكة من العلاقة بالآخر، بوساطة لغة الكلمات التي تسلم رقبتها في الغالب لرحمة أخطاء تقترفها مرارا لوحة مفاتيح صماء لا تفقه في لغة التواصل الإنساني وتخفق في إيصال الرسائل، تتعجل أو تصل بعد فوات الأوان وربما تصل قاصرة أو مبتورة.
إن كلمة تفسير بشكل عام تستخدم لتعيين كل ما يمكن أن يجعل الشيء واضحا لإدراكنا، وبحسب نظريات علم النفس، فإن السلوك يقبل التفسير وفق خطوات علمية معينة وهي المساءلة والاستدلال ثم الفهم، إضافة إلى أسلوب البحث عن العلاقات السببية بين المتغيرات وأهمها في هذا السياق العامل النفسي أو الأفكار المسبقة، ولا يمكن أن ننسى الفرد ذاته صاحب الرسالة، من خلال محاولة ملاحظة واستقراء سلوكه، كذلك الظرف الزماني والمكاني الذي كان إطارا لهذا السلوك، لإدراك العلاقات بين الظواهر المراد تفسيرها وبين الأحداث والوقائع التي تلازمها أو تسبقها.
كما لا يمكن أن ننسى تأثير معتقدات الشخص المستقبل للرسالة حيث تبدو له الحقائق والمفاهيم أحيانا ذات دلالات يصعب عليه فهمها، أو يشعر بأن المدلولات خاطئة لديه.
الرسالة قد تكون غير مكتملة أو غامضة أو مشوشة، بحيث يساء فهمها خاصة إذا كان المستقبل متأججا في عواطفه وانفعالاته كأن يكون غاضبا أو قلقا أو مجهدا نفسيا.
لكن أكثر ما يقلق في هذا النسيج المعقد من العلاقات هو عدم اهتمام الطرف المستقبل بالرسالة أو المرسل، وعدم رغبته بفك (شيفرات) الرموز الكامنة في الكلمات وتحويلها إلى معنى وروح. ولهذا تحديدا يرى جبران خليل جبران أن “كل ما يوجع النفوس الحساسة في هذا العالم هو سوء التفاهم”.