"أسقاس أمقاز"

احتضان شعبي واسع لفعاليات الاحتفال بعيد “الناير” الأمازيغي في الجزائر، فبعيدا عن خطاب التطرف الديني والقومي وحتى السياسي، يلاحَظ انخراط جماعي في تلقف طقوس وعادات الاحتفاء برأس السنة الأمازيغية في مختلف ربوع البلاد، وقد كانت أكثر صخبا في مناطق غير أمازيغية عن القلاع الأمازيغية المعروفة أحيانا، وذلك مؤشر على أن الخوف والشك اللذين ساورا بعض النخب السياسية والفعاليات الشعبية لم يعد لهما مكان في المجتمع، لأن الذي كان نذر شؤم بات بشارة خير.
و”أسقاس أمقاز” التي تعني “عيد سعيد”، صارت شعارا وطنيا يحمل أكثر من دلالة، فهو ليس مجرد تحية يتبادلها الناس بالمناسبة، بل رسالة مبطنة لكل الخائفين والمشككين، ولراكبي موجة الانفصال عن الوطن الأم، عبر بوابة الخصوصيات اللغوية والثقافية والسياسية لمنطقة القبائل.
فالذرائع التي يحملها دعاة الانفصال لتسويق المظلومية السياسية، لم يعد لها مكان إلا في خيال أصحابها أو في خيال داعميهم، لأن الالتفاف الشعبي الملاحظ حول “الناير” كجزء من هوية شاملة، يوحي بأن الجزائريين احتضنوا الرسالة، فصارت الاحتفالات في تلمسان وتبسة وتمنراست، كما في تيزي وزو وبجاية والعاصمة.. وغيرها، وهو ما يؤكد أن الوحدة عقيدة يؤمن بها الشارع قبل أن تكون خطبا وشعارات سياسية رسمية.
الآن يتأكد الجميع من حجم الوقت والجهد الذي أضاعته الجزائر في سبيل التطبيع مع نفسها والتصالح مع ذاتها، لأن المسألة في واقع الأمر ليست في تحديد نمط لهوية الفرد الجزائري، بل في ممارسة ثقافة الاعتراف والقدرة على إدارة الاختلاف وممارسة التعدد، والذهاب لمواجهة التحديات المحيطة وبناء نهضة الأمة.
كان بالإمكان أن يكون هذا الأمر من الماضي، لو قرأت النخب الحاكمة على مر العقود الماضية نبض الشارع بشكل جيد وبادرت بمرافقته إلى تحقيق ذاته وهويته، وكان بالإمكان أن تخلو صفحات التاريخ من أحداث الربيع الأمازيغي 1980، والربيع الأسود 2001، والعشرات من الضحايا والمساجين، وكان بالإمكان أيضا أن يجد أي قارئ أو متصفح معنى “أسقاس أمقاز” بكل سهولة، لأن اللغة التي لا تتجه لإنتاج المعرفة والتأليف ومواكبة التكنولوجيا لا يمكن أن تصمد لأن أبناءها هم أول من يتخلون عنها.
لحسن حظ الجزائر و”دعاء الصالحين” أن ما اعتقد في وقت سابق أنه تنازلات مخجلة لصالح أقلية شعبية وجغرافية، هو الآن ما يصنع مكاسبها في التضامن الأفقي، ويفوت الفرصة على من يصطادون في مياه الهوية لإخراج شياطين الفرقة والتفكك، ولم تعد اللغة الأمازيغية ولا “الناير”، ولا التنمية الجهوية، مصدرا كافيا لصناعة خطاب المظلومية لدى عتاة الانفصال.
لا يمكن لشرذمة محدودة العدة والعدد أن تخيف أو تهدد كتلة متماسكة، متى كانت الثقة في النفس والمصالحة مع الذات، وسيسقط منظروها في أول مواجهة مع الآخر، لأن الحجة صارت عليهم وليست لهم، فيمكن لأنصار فرحات مهني، أن يرفعوا أي شعار أو خطاب، إلا شعارات وخطب الهوية الأمازيغية، لأن خصمه هذه المرة ليست السلطة التي يسهل اتهامها بالقمع، بل خصمه هو الشارع الجزائري الذي ارتدى “برنوس وجبة” الأمازيغ.
سألت أحدهم: يتهمونكم بالعمل على تقسيم البلاد، فرد علي بسؤال عفوي: مع من أقسم؟ فكان جوابا كافيا، لا يوجد إنسان عاقل يرضى بخمس مساحة أرضه مقابل أن يصنع لذاته جسما يمكن أن يقيمه على مليونين و400 ألف كلم، وفوق ذلك مخياله يتحدث عن مملكة تاريخية امتدت من مصر إلى طنجة، وامتدت جنوبا إلى بوركينا فاسو.
“أسقاس أمقاز”، كل عام والأمازيغ بخير، هي الإضافة الناعمة لأمة متنوعة ومتعددة يمكن أن تكون لها ذاتها وكلمتها في المنطقة، متى امتلكت أبجديات النهضة كثقافة الاعتراف وإدارة الاختلاف والتنوع.