أزمة مكتبة طرابلس تفتح شهية الليبيين للمطالعة

واجهات المكتبات الكبرى، وما تقدمه من عناوين، يمكنها الكشف عن حقيقة الحركية الثقافية لأي بلد، وفي ليبيا كانت مكتبة طرابلس العلمية العالمية للطباعة والنشر والتوزيع هي المؤشر الذي يمكننا من خلاله قياس مدى الحركية الثقافية في البلاد، لكن هذه المنارة الثقافية مهددة اليوم.
شهدت العاصمة الليبية زحفا شعبيا غير مسبوق على مكتبة طرابلس العلمية العالمية للطباعة والنشر والتوزيع بشارع الزاوية، وذلك لاقتناء الكتب العلمية والأدبية والتاريخية والتعليمية وغيرها، خلال أيام تنظيم المعرض الداخلي الذي استمر في مرحلة أولى لمدة أسبوع بتخفيضات قياسية تراوحت بين 70 و90 في المئة.
ولوحظ ازدحام كبير للطلبة وأحباء المطالعة ممن فوجئوا بالتخفيضات الكبرى في أسعار الكتب المعروضة بالبهو الخارجي لأعرق مكتبة في طرابلس والغرب الليبي. وهو ما أثار جدلا واسعا في أوساط المثقفين حول أثر سعر الكتاب على مستويات الإقبال عليه، لاسيما في المجتمعات التي تعاني من ظروف اقتصادية ومالية صعبة.
منارة ثقافية مهددة
مكتبة طرابلس العلمية العالمية مركز ثقافي وحضاري، وصرح علمي ومعرفي يستوجب الحفاظ عليه من الانهيار
وفي الثاني من أكتوبر، تحدثت إدارة المكتبة عن فرصة متميزة وكبيرة تقدمها للجمهور الواسع، وهي تستهدف بالدرجة الأولى الأكاديميين وطلبة الجامعات الليبية والمراكز البحثية، وعموم القراء أيضا، من خلال تصفيتها لبعض العناوين في مجالات علمية وأدبية وتخصصية متنوعة، وذلك بتنظيمها لمعرض الكتاب العلمي الثقافي الذي افتتح يوم السابع من أكتوبر.
ويعود سبب التصفية التي تقوم بها المكتبة إلى حكم قضائي صادر بإجبارها على إخلاء مقرّها التابع للصندوق الليبي للاستثمار الداخلي، وتلقيها إنذارا رسميا بذلك.
وكانت المكتبة قد افتتحت في العشرين من أبريل 1992 بعد الإعلان عن تأسيسها من قبل ضو التيبار، بالشراكة مع اللجنة الشعبية لبلدية طرابلس في ذلك الوقت، بنسبة 40 في المئة من المقر وباقي الشركاء بنسبة 60 في المئة، واستمرت على هذا الحال حتى العام 1998، حيث صدر قرار آنذاك بحل اللجان الشعبية للبلدية، وبالتالي أحيلت تبعية مبنى سوق الجماهيرية المجمع إلى الجنة الشعبية العامة للمرافق، فتم الاتجاه نحو فك الشراكة مع الجهة الحكومية والتعاقد مع شركة التسويق المحلي بخصوص تأجير المقر فقط وأصبحت المكتبة للشركاء الأساسيين.
وفي ظل ظهور حالة الانفتاح الاقتصادي في البلاد، جرى تمليك مباني الأسواق العامة للأشخاص، وتلقت المكتبة طلبا بمغادرة مقرها، وبما أنها كانت الوحيدة تقريبا المتخصصة في توفير الكتب العلمية والأكاديمية والملجأ للطالب والباحث، ونظرا إلى مساهمتها في تطوير المناهج بالجامعات الليبية من خلال الإصدارات الجديدة المحلية أو الخارجية، رفضت أمر المغادرة وقامت برفع دعوى قضائية كان الحكم فيها لصالحها بتجديد العقد لمدة عشر سنوات.
وقبل أيام، فوجئت مديرة المكتبة بوصول محضر قضائي من محكمة شمال طرابلس يتضمن شكوى من إحدى المؤسسات ضدها باغتصاب المكان دون أن تقوم أي جهة أو أي شخص بإبلاغها سابقا بالموضوع.
وأكدت المديرة أنها تواصلت مع محاميها وعبرت له عن عدم ممانعتها في تسليم المبنى، مشيرة إلى أنه كان من المفترض أن يتم التواصل معها مسبقا للاتفاق على آلية التسليم والاستلام، وطالبت من المسؤولين إعطاءها بعض الوقت لتتمكن من نقل محتويات المكتبة، حيث إنها تحتوي على قرابة أربعة آلاف عقد توزيع مع مؤلفين ودور نشر ومؤسسات علمية، تقوم بتوزيع كتبهم، بما يرتب عليها التزامات قانونية مهمة.
وقد نشر عدد من الكتاب والأدباء والإعلاميين والمثقفين الليبيين بيانا أكدوا فيه تضامنهم مع المكتبة ومديرتها فاطمة حقيق ودعوا فيه السلطات التنفيذية إلى ضرورة التدخل لحماية المنارة الثقافية والعلمية المهمة التي تضم ما لا يقل عن 50 ألف مصنف وثلاثة ملايين كتاب من مختلف الاختصاصات.
وفي هذا السياق، قام رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة بزيارة المكتبة حيث أصدر تعليماته بتمديد مهلة الإخلاء التي منحتها الجهات المالكة لمبنى المكتبة، وتوجيه وزارات التربية والتعليم، والتعليم العالي والبحث العلمي، والثقافة والتنمية المعرفية، بمراجعة محتويات المكتبة والاستفادة منها في إثراء المكتبات المدرسية والجامعية والمراكز الثقافية.
وطالب الدبيبة بالمحافظة على المكتبة وما تمثله من إرث معرفي من خلال البحث عن موقع يليق بها، وتقديم الدعم اللازم لها تقديرا للدور العلمي الذي تقدمه للبلاد، والإنتاج الثقافي المحلي للكتاب الليبيين.
أزمة المكتبة
تحظى المكتبة بعضوية كل من اتحاد الناشرين الليبيين، واتحاد الناشرين العرب واتحاد الناشرين الأفارقة، وذلك لتعميق التعارف مع المتطلبات الثقافية، وتعد إحدى دور النشر الهامة في ليبيا والعالم العربي، حيث إنها، وإلى جانب منشوراتها، تقوم بتوزيع كل ما تنشره دور النشر الليبية والمؤلفون الناشرون لحسابهم الخاص.
وأعربت وزيرة الثقافة والتنمية المعرفية مبروكة توغي عثمان عن دعمها الكامل لأهمية استمرار وجود المكتبة للاضطلاع بمسؤولياتها الثقافية كصرح فكري وعلمي يخدم المشهد الإبداعي الليبي، وعن تضامنها الكامل مع المكتبة أمام ما تواجهه اليوم من صعوبات تتمثل في الإنذار الموجه من قبل الصندوق الليبي للاستثمار الداخلي والمحلي بضرورة إخلاء مقر المكتبة.
كما ثمنت الوزيرة عاليا دور مكتبة طرابلس الثقافي والحضاري وما تقوم به منذ تأسيسها من دور فاعل للارتقاء بالحراك الثقافي والعلمي في ليبيا.
المكتبة لها عضوية في اتحاد الناشرين الليبيين واتحاد الناشرين العرب واتحاد الناشرين الأفارقة وهي دار نشر هامة في البلاد
وكانت الوزيرة اطلعت على أروقة المكتبة رفقة مديرتها العامة فاطمة حقيق التي أطلعتها على أقسام المكتبة وما تتضمنه من ملايين العناوين المتنوعة في شتى المجالات العلمية والتخصصية، علاوة على أحدث العناوين الصادرة عنها.
وفيما أعرب رئيس مجلس إدارة الدار العربية للكتاب عبدالمنعم اللموشي عن تضامنه مع مكتبة طرابلس، وعبّر عن استيائه من الحملة شبه الممنهجة ضد المرافق والمؤسسات والدور الثقافية والفنية والفكرية الليبية التي تتعرض لها فيما يشبه محاولات التجريف والاقتلاع لكل المنارات الثقافية والحضارية لصالح الطغيان المادي والتجاري، شددت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيا على أن “مكتبة طرابلس العلمية العالمية للنشر والتوزيع مركز ثقافي وحضاري، وصرح علمي ومعرفي يستوجب الحفاظ عليه من الانهيار، فهي تمثل كنزا معرفيا للأجيال الحاضرة والقادمة، وقد ساهمت في إثراء الحركة الثقافية والمعرفية على المستوي الوطني قرابة الثلاثين عاما”.
كما تطرقت مديرة المكتبة خلال لقاء مع النائب العام المستشار الصديق الصور بمكتبه بطرابلس، إلى الإخطار الذي وجهه صندوق الاستثمار المحلي مؤخرا بضرورة إخلاء مقر المكتبة الذي تشغله بالسوق المجمع، وإلى دور المكتبة البارز في نشر وخدمة المعرفة والعلوم المختلفة، واحتوائها على الملايين من الكتب ما اضطر إدارتها إلى تصفية الكتب وبيعها بأبخس الأثمان في شكل معرض مفتوح.
وبحسب مراقبين، فإن أزمة مكتبة طرابلس لفتت اهتمام الرأي العام إلى قضية ثقافية مهمة وهي وضعية الكتاب والاستثمار فيه، وواقع المكتبات في غياب الدعم الرسمي، وحالة الثقافة والمثقفين الليبيين في ظل الوضع السياسي المتفاقم منذ 12 عاما. وبالمقابل فإن الظروف التي تمر بها المكتبة فتحت شهية أبناء العاصمة للقراءة والمطالعة من خلال الإقبال غير المسبوق على اقتناء الكتب والذي مثّل نقطة مضيئة تبشر بمستقبل أفضل للكتابة والكتاب.