أزمة النقد في مصر.. أي سبل للعلاج وأدوات لابتكار الحل

لا يمكن أن يتطور أي فن من الفنون بمعزل عن النقد، وهذا الأخير يعاني من مشاكل كبيرة في العالم العربي جعلته حبيس الجامعات، بعيدا عن الممارسات الفنية. ويدعو هذا الواقع إلى وقفة جدية لتحرير النقد وتجديده وجعله يقوم بوظيفته.
القاهرة - من آن إلى آخر تثور مشكلات وتنشب معارك بين المبدعين والنقاد في مختلف فروع الفن. يتبادل الطرفان الاتهامات والتراشق بأسلحة الكلام؛ سلاح الاتهام بعدم التخصص في النقد، مقابل سلاح عدم قبول الاختلاف في الرأي حول العمل الإبداعي.
ولم يعد هناك خلاف على وجود أزمة عامة في النقد بمصر، يسري ذلك على جميع الفنون، من السينما إلى الأدب، ومن الموسيقى إلى المسرح، وتتباين الرؤى حول الأسباب، وتتعدد الاجتهادات بشأن سبل العلاج.
واللافت في الأمر أن الأزمة، وما يتفرع عنها من مشكلات، تقع في بلد مثل مصر تتعدد فيه الأقسام والكليات الجامعية التي يتخرج فيها كل عام نقاد متخصصون، يدرسون قواعد وأصول النقد الفني على أيدي أعلام من كبار الأساتذة الأكاديميين.
وتضاف إلى ذلك جهة علمية رصينة تختص بالنقد في مختلف فروع الفن، هي المعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون المصرية، ويصل عمره الآن إلى نصف قرن، لكن كثيرًا ما يتم تجاهله أو عدم الالتفات بصورة كافية لدوره، أو غض الطرف عن الإنصات إلى أساتذته ورؤيتهم للقضية.
سفراء النقد الفني
تعبر عميدة المعهد العالي للنقد الفني رانيا يحيى في حديثها لـ “العرب” عن حلمها الكبير بأن يصبح المعهد العالي للنقد الفني أهم مؤسسة أكاديمية تعليمية في مجال تخصصه، فهو الجهة الوحيدة التي تمنح شهادة في النقد الفني في مختلف التخصصات على مستوى مصر والمنطقة العربية حاليا.
وتقول إن المعهد مؤسسة عريقة، وتتمنى أن يكون أكثر عراقة، وله سمعة طيبة بدارسيه وأساتذته، ويضم دارسين من جميع أنحاء الوطن العربي، ليكونوا خير سفراء له، وهذه أحلام لن تتحقق إلا بوجود جسور للتواصل مع العالم الإبداعي في واقعنا الحالي، وقيام الدارسين بممارسات نقدية حقيقية يكون لها أثر حقيقي على عملية الإبداع في مختلف المجالات.
وتضيف لـ”العرب” أن ذلك يمكن أن يحدث من خلال عقد ورش عمل وندوات مفتوحة مع المبدعين ووجود شراكات حقيقية لتغدو هذه المؤسسة العلمية بمنزلة المنبر الذي يتلقى من خلاله الفنانون ما يمكن تسميته صك المرور أو الاعتراف النقدي العلمي بقيمة أعمالهم الفنية.
وصدرت للأكاديمية المصرية الفنانة رانيا يحيى عشرة كتب، منها “غذاء الروح” الذي يقدم مصطلحات الموسيقى الكلاسيكية بشكل مبسط للقارئ غير المتخصص وكتب مقدمته الموسيقار المصري عمر خيرت، بالإضافة إلى “موسيقى أفلام يوسف شاهين”، و”نغمات على شاطئ الواقعية” عن موسيقى أفلام المخرج المصري صلاح أبوسيف، و”فرسان النغم في السينما المصرية”.
تسأل “العرب” يحيى عن واقع النقد حاليا وصورته في عينيها، فتؤكد أن النقد الفني موجود في مصر، لكنّ هناك تراجعا كبيرا في بعض التخصصات، رغم وجود دارسين وخريجين من المعهد في هذه المجالات، والمأمول أن يكون لهم تأثير أكبر على الأرض، يخدم الإبداع ويفيده.
وتشدد على أن النقد ينبغي أن يكون القاطرة التي تقود الإبداع المصري والعربي، عن طريق التفسير والتحليل وشرح الأعمال الفنية وصولا إلى الحكم عليها، حتى يمكن تغيير أي سلبية يعاني منها المجتمع نتيجة التراجع في بعض الفنون، فالناقد له دور في تهذيب السلبيات عبر توعية المجتمع بها، لأن النقد هو المتمم للإبداع، أي أنه جزء من العملية الإبداعية ذاتها.
وتؤكد يحيى على أهمية وجود نقد حقيقي، وألا يقتصر الأمر على النقد الانطباعي الذاتي الذي تكتبه بعض الأقلام الصحافية، لأن النقد له أصوله وقواعده ومعاييره، لذلك لا بد أن يكون هناك توجه لدى الصحافيين والمعدين في البرامج التلفزيونية لدراسة النقد.
وتواصلت عميدة المعهد العالي للنقد الفني مع كرم جبر رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر، والذي رحب بمسألة تقديم المجلس منحا للصحافيين والإعلاميين للدراسة بالمعهد، التي لا تزيد قيمتها عن أربعة آلاف جنيه مصري خلال عامين (حوالي 84 دولارا). واستجابت جمعية كتاب ونقاد السينما برئاسة الصحافي المصري الأمير أباظة للفكرة، وقدمت بالفعل عددا من المنح في العام الدراسي المنقضي.
النقد والتذوق
واقع النقد في مصر لا بد أن يكون أقوى وأهم من الوضع الحالي بكثير، لأن مصر صاحبة الريادة في مختلف أشكال الفنون
تعتبر الفنانة الأكاديمية أن واقع النقد في مصر لا بد أن يكون أقوى وأهم من الوضع الحالي بكثير، لأن مصر هي الحاضنة للأمة العربية وصاحبة الريادة في مختلف أشكال الفنون.
وتم إنشاء المعهد العالي للنقد الفني عام 1970، بقرار من الرئيس المصري الراحل أنور السادات، في عهد الأكاديمي ثروت عكاشة، أول وزير للثقافة بمصر، ويوصف بأنه رائد الثقافة المصرية، ليكون معهدا للدراسات العليا في النقد في مختلف فروع الفن ويتم تدريسها في معاهد أكاديمية الفنون المصرية، والتي يتبعها المعهد.
تخرجت الدفعة الأولى في المعهد عام 1974، إذ كانت مدة الدراسة آنذاك أربع سنوات، وليس سنتين كما هو الوضع الآن، وفي شهر يوليو المقبل سيحتفل المعهد باليوبيل الذهبي له، لمرور خمسين عاما على تخريج أولى دفعاته.
وقد مرت مدة طويلة تزيد عن نصف قرن من الزمان على إنشاء المعهد الذي تعاقبت على عمادته أسماء لها وزن وثقل في حركة النقد والفن والثقافة عموما في مصر، فكان أول عميد للمعهد هو الأكاديمي عبدالسلام الشريف، وتوالت أسماء كثيرة رنانة منها الأكاديميون رشاد رشدي وفوزي فهمي وعواطف عبدالكريم وآخرون.
والأكاديمية رانيا يحيى، العميدة الحالية للمعهد العالي للنقد الفني، هي آخر حلقة في سلسلة الحالمين بتطوير الفنون على أسس علمية، تولت عمادة المعهد قبل عام واحد، في 2023، وهو العام الذي حصلت فيه على جائزة الدولة للتفوق في مجال الفنون.
النقد ينبغي أن يكون القاطرة التي تقود الإبداع المصري والعربي عن طريق التفسير والتحليل والشرح وصولا إلى التقييم
يمنح المعهد شهادتين مختلفتين، الأولى في النقد الفني، في ستة تخصصات، هي: النقد التشكيلي، والنقد الموسيقي، ونقد الأداء الحركي، والنقد الأدبي والمسرح، والنقد السينمائي والتلفزيوني، وفلسفة الفن وعلومه. ويمنح الشهادة الثانية في التذوق الفني.
يتم السماح بالالتحاق للدراسة والحصول على الشهادة الأولى في النقد الفني لخريجي معاهد أكاديمية الفنون وما يناظرها في الجامعات المصرية أو العربية، في مجال العلوم الإنسانية، من الحاصلين على تقدير جيد على الأقل. وبعد الدبلومة ومدتها عامان يمكن للحاصلين على نفس التقدير تحضير الماجستير والدكتوراه.
ويُسمح بالدراسة لنيل الشهادة الثانية في التذوق الفني لخريجي الكليات الأخرى، البعيدة عن المجالات الأدبية والفنية، كالتجارة والطب والهندسة والحقوق وغيرها، ومدتها عامان أيضا، ولا يحق للدارس استكمال الماجستير والدكتوراه.
إحلال وتجديد
قضت رانيا يحيى سنوات عمرها داخل أكاديمية الفنون المصرية، بداية من المعهد العالي للموسيقى، الكونسرفتوار، وكانت الأولى على دفعتها والطالبة المثالية على مستوى الأكاديمية، قبل أن تنتقل إلى المعهد العالي للنقد الفني بعد حصولها على درجة الماجستير.
وعلى مدى العام الماضي جرت عملية تجديد كبيرة في المعهد العالي للنقد الفني ومقره داخل أكاديمية الفنون في حي الأهرام (محافظة الجيزة)، على مستوى الشكل الجمالي والمضمون، لأنه لم يكن قد تم تطويره منذ سنوات، وتم استرداد نصف المبنى الذي يشغله من الأكاديمية ليصبح المبنى بالكامل في حيازة المعهد، وإجراء توسعة كبيرة للمكتبة.
وتبرع الفنانون بإبداعات من أعمالهم للتطوير الجمالي للمعهد، ومنهم الأكاديمية سهير عثمان التي قدمت سجادة يدوية، والفنان حسين نوح أهدى إحدى لوحاته، وتم تقديم لوحتين من الأكاديمي مصطفى يحيى، ومثلهما من الأكاديمية ماجدة سعدالدين، وكذلك من الفنانين وسيم إمام وحسين شبط، ولوحات وأعمال فنية أخرى تقدم بها الخريجون والدارسون المنتمون إلى المعهد، ومنهم أماني زهران وحنان سمير وريهام محمود ومحمد سيد عبود وجيهان الصبان.