أزمات اجتماعية قديمة فكيف يتحمل وزرها قيس سعيد

المعارضة التونسية تركب موجة الاحتجاجات الاجتماعية وتريد تحويلها إلى ورقة ضغط وإرباك ضد الرئيس قيس سعيد. لكن الرجل لا يمتلك بدائل جاهزة، فلم يمض على استلامه السلطة سوى ثلاثة أشهر، فضلا عن أن الأزمات قديمة وتتحمل مسؤوليتها الأحزاب التي حكمت خلال السنوات العشر الماضية وتسعى للتبرؤ من ماضيها وإلقائه على كتفيه.
من السهل أن تقف الأحزاب التي حكمت في السنوات العشر الأخيرة على الربوة وتبدأ في اتهام الرئيس قيس سعيد وإدارته بالتقصير وتجرهما إلى مربع ردة الفعل تجاه قضايا لا ناقة لهما وفيها ولا جمل. لكن الناس ما تزال ذاكرتهم قوية، ويعرفون أن ملفا مثل ملف النفايات ظل يراوح مكانه منذ حكم الترويكا في 2012 إلى حدود حكومة هشام المشيشي في يوليو 2021.
والأمر لا يتعلق فقط بمصب النفايات في منطقة عقارب القريبة من مدينة صفاقس، فهناك مشكلة أعمق تتعلق بمصب برج شاكير قرب العاصمة، وبقية الولايات (المحافظات) تعيش نفس المشكلة، وتظاهر الناس لأجل تغيير أماكن تجميع النفايات لكن الحكومات المتعاقبة قابلتهم بعدم المبالاة. كما لم تسع لتطوير طرق معالجة تلك النفايات بالشكل الذي يمنع انتشار الروائح الكريهة ويحول “الرسكلة” إلى عامل إيجابي.
الآن باتت كل الأحزاب تظهر تعاطفها مع أهالي عقارب وتدعو إلى التحقيق في الأحداث التي أدت إلى المواجهة مع الأمن. هذا أمر جيد، ولكن هل يمكن أن يعود التحقيق إلى المسؤولين السابقين الذين تهاونوا وسوفوا وأغلقوا أبواب الحلول على المواطنين بزعم أن الظروف غير مواتية؟
وجاء في بيان لحركة النهضة الأربعاء أنها “تدين اللجوء إلى المنهج الأمني في التعاطي مع مشاكل البلاد وما يخلفه ذلك من ضحايا وانتهاكات، وتطالب بفتح تحقيق قضائي لتحديد المسؤوليات”.
وأضاف البيان، الذي حمّل المسؤولية السياسية للرئيس سعيد ووزير الداخلية، أن “مثل هذه المشاكل لا تحل إلا من خلال مقاربات تشاركية يكون المواطن أول المساهمين فيها، فضلا عن السلطة الجهوية والجماعات المحلية، كما تعتبر أن الحلول الأحادية التي تفرض بشكل فوقي قد أثبتت فشلها سابقا وفي أكثر من موقع”.
إن جردا سريعا لأزمات معروفة خلال السنوات العشر الماضية سيجد أن الحكومات التي كانت حركة النهضة فيها شريكا رئيسيا قد اعتمدت على المعالجة الأمنية دون سواها لإسكات المحتجين على مشاكل اجتماعية وليس فقط على قضايا سياسية.
من ذلك ما جرى في مدينة سليانة (شمال غرب)، حيث واجهت وزارة الداخلية التي كان يرأسها القيادي في حركة النهضة علي العريض المواطنين المحتجين سلميا بالسلاح في ما بات يعرف بحادثة “الرشّ” في 2012، وكذلك احتجاجات التاسع من أبريل من نفس العام. وأيضا مواجهة اعتصام الكامور في أكثر من مرة بالقوة الأمنية، واعتصام الدولاب، وكلاهما كانا حول آبار للنفط.
والأمر لا يقف عند القضايا التي ظلت عالقة بسبب ارتباطها بمواجهات أمنية، فهناك ملفات كثيرة لم يتحقق فيها شيء من الوعود التي رفعت، ولم تقدر الحكومات على التقدم فيها بالرغم من ضرورتها الاجتماعية، وظلت تلك الحكومات تعتمد أسلوب التأجيل وإلقاء المسؤولية على الحكومات اللاحقة إلى أن جاءت إجراءات الخامس والعشرين من يوليو 2021 لتجد البلاد على فوهة أزمات لا تعد ولا تحصى.
من العبث أن تقول لقيس سعيد أنت فاشل وعليك أن تتنحى لأنك لم تنجز في ثلاثة أشهر ما عجزت عنه أنا في عشر سنوات. مهما كانت قوة أي حكومة فإنها لا تقدر في فترة محدودة مثل هذه سوى على فتح الملفات والاطلاع على تفاصيلها من أجل أن تبدأ في وضع خطط لحلها سواء بشكل مباشر أو بالشراكة مع مختلف الأطراف المتداخلة.
صحيح أن الأمر يأتي ضمن الاستثمار السياسي للأزمات من أجل تحقيق أهداف من ورائها لا علاقة لها بها، فلو عادت النهضة الآن إلى الحكم، أو أي حزب آخر، لن تجد مقاربة للتعاطي مع أزمة عقارب مختلفة عن التعاطي الحالي. لكن الشحن السياسي ومنطق تسجيل النقاط سيعيدان البلاد إلى الاحتقان الاجتماعي ويغذيان حركة الإضرابات والاعتصامات والاجتراء على الدولة واستصغارها، وهي أحد مفاتيح فهم الفشل في المرحلة الماضية.
◄ إن جردا سريعا لأزمات معروفة خلال السنوات العشر الماضية سيجد أن الحكومات التي كانت حركة النهضة فيها شريكا رئيسيا قد اعتمدت على المعالجة الأمنية دون سواها لإسكات المحتجين
قد ترى حركة النهضة أنها كانت ضحية لخطاب الشحن الاجتماعي من خصومها ومن النقابات خلال فترات حكمها، وأن لا أحد وجد لها مبررا، لكن هل من المشروعية الأخلاقية والسياسية أن نعيد نفس الأساليب لإرباك خصومنا ونحن نعرف أنها تزيد المعاناة على الناس وتربك الدولة وتمنعها من وضع يدها على طريق البحث عن حل؟
هناك قناعة واسعة داخل المجتمع التونسي بأن أحزاب المرحلة الماضية، وأولها حركة النهضة، قد أخذت فرصتها كاملة في القيادة والحكم، وأنها لم تكن تمتلك بدائل ولا أفكارا، وأنها غرقت في إدارة التوازنات ولعبة المكاسب الحزبية التي اختطفت البلاد بعيدا عن مطالب الناس وانتظاراتهم.
كما أن صورة الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي يتبنى الاحتجاجات بشكل آلي، باتت مثار نقد على نطاق واسع حتى من داخل المنتسبين إليه، مع ملاحظة أنه لم يعد يتحكم في نقابات باتت ترى في الإضراب ورقة لي ذراع مع السلطة ومع القيادة النقابية ذاتها، مثلما جرى الجمعة مع نقابات التعليم.
الدنيا تغيرت، والاتحاد الذي كان يعامل بصفته “أقوى قوة في البلاد” بسبب راديكاليته في الوقوف ضد النهضة في السنوات الماضية بات يفتقد إلى هذه الصفة في أذهان الناس خاصة أنه يسعى لأن يلعب دور القائد وكشاف الطريق لقيس سعيد بطرح مبادرة خارطة طريق، أو تأكيده المستمر على أن على سعيد أن يفعل هذا ولا يفعل ذاك مثلما جاء في بيانه ليوم الجمعة.
وطالب بيان الاتحاد قيس سعيد بـ”توضيح الرؤية السياسية وضبط مسار تصحيح حقيقي والإسراع بإنهاء الغموض المخيّم على الوضع العام ووضع خارطة طريق تنهي المرحلة الاستثنائية وتحدّد الآفاق، بما يوفّر شروط الاستقرار ومواصلة بناء الديمقراطية”.
لماذا لا يعطي هؤلاء الفرصة للمرحلة الجديدة وشعاراتها ووعودها ويختبرونها في مرحلة انتقالية تستمر إلى موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 2023؟ ماذا ستفيد انتخابات مبكرة التي دعتها إليها “المبادرة الديمقراطية” منذ أيام؟ هل الأزمة تكمن فقط في تجميد البرلمان وإبعاد النواب عن الأضواء؟ بالطبع لا.
وكل ما في الأمر أن الطبقة السياسية، التي تم تحييدها في ظل حماس شعبي للمسار الانتقالي الذي قاده قيس سعيد، لا يهمها سوى أن تكون في المشهد مراهنة على استراتيجية إغراق البلاد في الاحتجاجات والمبادرات والمؤتمرات والإيحاء بأننا في أزمة خانقة.
إلى الآن قيس سعيد متماسك وقوي في وجه خصومه ومناورات خلط الأوراق التي يعمدون إليها كل مرة، لكن هناك مخاوف من أن تؤدي هذه الضغوط إلى جعله أكثر تشددا في التعاطي مع التحركات التي تدور من حولها أيادي الخصوم حتى لو كانت تحركات مشروعة، فالرجل صعب المراس ولا يقبل أن يدفع لفعل أي شيء إلا في الوقت الذي يختاره بنفسه.
وقد أظهر نوعا من المناورة حين استقبل في قصر قرطاج ممثلين عن محتجي عقارب، واستمع إلى مشاغلهم، وبدد شكوكهم، وتعهد بحل مشكلة المصب في موعد قريب. هذا مهم، لكن على الرئيس أن يحذر أن وعد إغلاق المصب ليس أمرا سهلا ويحتاج إلى خطط وبدائل، ومن الصعب أن يجد مكانا تنقل إليه أكوام الفضلات في ظل تحفز مناطقي يرفع شعار أنا ومن بعدي الطوفان.
من الطبيعي أن تثور الاحتجاجات في وجه قيس سعيد مع موسم الاحتجاجات الشتوي، وأكيد أنه كان هو ومستشاروه يتوقعون أن تتحرك مناطق مختلفة للمطالبة بالحقوق، فالناس لا يمكن أن ينتظروه ولا يتفهمون ظروفه أو كيف يفكر وماذا يخطط، ما يهمهم هو معالجة أوضاعهم الاجتماعية الصعبة، والتي لأجلها ثاروا على المنظومة السابقة ودعموه هو بأن صوتوا له بأعلى نسبة في الدور الثاني.
السياسيون هزمهم الرئيس سعيد بدعم شعبي كبير ما تزال تعكسه استطلاعات الرأي، ولذلك من المهم أن يتركهم وراءه ويفكر في بناء البدائل التي تحدث عنها في خطاباته والتي جذبت الناس إليه.
المطلوب الآن أن يخرج قيس سعيد من التركيز على الموضوع السياسي إلى اهتمام جدي بالملف الاقتصادي والاجتماعي، وطرح أفكار واضحة، وفتح الحوار عليها أمام الشركاء الاجتماعيين، وخاصة التحرك لتوفير التمويل اللازم، فتلك مهمته.
من العبث أن تقول لقيس سعيد أنت فاشل وعليك أن تتنحى لأنك لم تنجز في ثلاثة أشهر ما عجزت عنه أنا في عشر سنوات
من الضروري أن توجد دائرة في الدولة مهتمة بالملف الاقتصادي والاجتماعي، والأمر هنا بالتأكيد لا يعني المتابعة الشخصية وإقرار مساعدات ظرفية للفئات الضعيفة، فهذا إجراء غير فعال من ناحية أنه يرهق كاهل الدولة إنْ تحوّل إلى تقليد في كل مناسبة دينية، ومن ناحية فهو لا يحل مشاكل الفئات الضعيفة التي تحتاج إلى حلول دائمة، فضلا عن أن الإجراء لا يستطيع أن يصل إلى كل الناس المستحقين، فدائرة الفقر تتوسع بشكل مستمر في ظل ارتفاع الأسعار وعجز إجراءات الدعم الحكومية عن سدّ هذه الفجوة.
كما أن عليه في سياق المصارحة أن يقدم صورة دقيقة عن الأموال التي تقدر الدولة على استعادتها في ملفات الفساد في الداخل قبل الخارج، خاصة وقد سبق له أن ذكر أمثلة عن أرقام كبيرة في خطابات له، وهو ما شجع الناس على أن ينتظروا تغييرا فعليا في الحياة في ظل رئيس ساع لاستعادة أموال البلاد وإعادة توظيفها في خدمتهم.
لكن الصمت في هذه المسائل سيفتح الطريق أمام الدعاية المضادة التي تعمل على إظهاره في صورة رئيس بلا بدائل، وأنه لا يمتلك سوى الكلام.