"أرشيف الأطفال المفقودين" رواية وثائقية لتجارب أطفال يائسين

تحفل قصص الهجرة غير النظامية بتراجيديات مؤلمة، ضحاياها كثيرون، إما الموتى أو من يجدون أنفسهم عالقين في كابوس لا يشبه الحلم الذي دفعهم للمقامرة بحياتهم. الحدود المكسيكية – الأميركية واحدة من مناطق الهجرة غير النظامية الأكثر إثارة، خاصة في ما يتعلق بهجرة الأطفال الذين يتوه كثير منهم في الصحراء. الكاتبة المكسيكية فاليريا لويزلي تحاول توثيق ذلك بأعين مختلفة.
تواجه أزمة المهاجرين غير الشرعيين من المكسيك إلى الولايات المتحدة مستقبلا غامضا، وذلك وسط تحولها إلى صداع في رأس السياسة الأميركية وورقة ضغط وخلاف يستخدمها حزبا الديمقراطيين والجمهوريين على السواء، وهذه الرواية للكاتبة المكسيكية فاليريا لويزلي “أرشيف الأطفال المفقودين” هي قصة وثائقية أصلية وجريئة مستوحاة من تجارب الأطفال اليائسين الذين يعبرون الحدود الصحراوية بين المكسيك ونيو مكسيكو وأريزونا، ومحاربي أباتشي الذين اتخذوا موقعهم الأخير في الصحراء.
تكتب لويزلي عن محنة هؤلاء المهاجرين الذين يحاولون عبور الحدود بين المكسيك والولايات المتحدة، وخاصة الأطفال الذين يقومون بذلك المرور الخطير عبر الصحراء على أمل لمّ شملهم مع أفراد أسرهم الذين يعملون في الولايات المتحدة. هناك رسالة للكاتبة، ورسالة مهمة ومبدعة، تتلخص في كونها مصممة على كشف محنة هؤلاء الأطفال الذين يُنقلون على أسطح القطارات من البؤس والخطر في هندوراس والمكسيك إلى البؤس والخطر في الولايات المتحدة، كون ذلك كارثة لن تُمحى من التاريخ. وهذا ما يعالجه بناء النص عن طريق طرح جميع أنواع الأفكار الخاصة بالقضية، بالإضافة إلى خيوط سردية تدمج الروابط التي يظن أن لا معنى لها لتصبح فاعلة في سياق الأحداث.
أطفال في الصحراء
تصف الرواية، التي ترجمتها عبير عبدالواحد وصدرت عن دار المدى، رحلة برية تقوم بها الراوية وزوجها وابنه البالغ من العمر 10 سنوات وابنتها البالغة من العمر 5 سنوات من نيويورك إلى صحراء نيو مكسيكو. ذكرت في وقت مبكر أنها كانت الرحلة الأخيرة التي قاموا بها كعائلة. تم جمع الزوجين معا من خلال مشروع وثائقي عن أصوات ولغات نيويورك، لكن مشاريعهما المستقبلية تتباعد حيث يصبح الزوج مهووسا بالأباتشي، في ما تنجذب الراوية إلى قصة صديقة مكسيكية تم احتجاز طفلتيها على الحدود أثناء العبور إلى أميركا بشكل غير قانوني.
أثناء الرحلة عبر الولايات المتحدة، تأتي الأخبار في راديو السيارة عن وجود “أزمة هجرة”، حيث يحاول الآلاف من الأطفال عبور الحدود إلى الولايات المتحدة، لكنهم يتعرضون للاعتقال أو الضياع في الصحراء على طول الطريق. ومن جانب آخر يروي الأب للطفلين حكايات “الأباتشي وجيرونيمو”، بينما تروي لهما الأم حكايات “الأطفال المفقودين”، هؤلاء الأطفال الذين جاؤوا مهاجرين من أميركا اللاتينية عبر الحدود بحثًا عن ملجأ في الولايات المتحدة.
وبينما تقود العائلة سيارتها عبر فيرجينيا إلى تينيسي، ومِن أوكلاهوما إلى تكساس، نشعر أنها على شفا أزمة خاصة بها. شرخ يتسع بين الوالدين، ويوشك الطفلان على الإحساسِ به تحت أقدامهما. يتسع الشرخ بين الراوية وزوجها، ويكاد يفتك بعقلي الطفلين. وفي ظل هذا التوتر يعتقد الصبي أنه إذا هرب هو والفتاة، فسيتمكنان من العثور على طفلتي مانويلا وسيتمكن والداهما، اللذين سيذهبان للبحث عنهما، من استردادهم جميعا. يقرر الصبي المغادرة مع الفتاة، تاركا وراءه خريطة لوالديه تخبرهما أنهما سوف يجتمعان معهما مرة أخرى.
ومع انطلاقه هاربا يتولى الصبي دور الراوي الرئيسي، يصف كيف قاد أخته بعيدا في رحلة على الأقدام وركوب القطار عبر الصحراء بحثًا عن الأطفال المفقودين ووادي الصدى للأباتشي. يقرأ الصبي كتابا خياليا كانت والدته تقرأه، “مرثيات الأطفال المفقودين”، حيث أربعة أطفال يسيرون من الجنوب ولا يحملون شيئًا سوى الأمل في العثور في النهاية على أقاربهم في الشمال. يسير الصبي والفتاة جنوبا حاملين الأمل في العثور على أطفال المرثيات الضائعين وإحياء وحدة أسرهم الممزقة بطريقة ما. وهنا يلتقي الراويان ليخلقا مغامرة بحث وتوثيق لعالم الأطفال المفقودين في الصحراء. تبدو أجزاء من هذا خيالية بعض الشيء ولكن التأثير قوي جدا.
يبذل الوالدان قصارى جهدهما لإيجاد طفليهما والبقاء متحدين كعائلة. لكن الأم تتلقى مكالمة تفيد بالعثور على طفلتي مانويلا متوفيتين في الصحراء. يخيم الحزن على العائلة، وتقرر الأم الرحيل مع ابنتها ليس لأن الشرخ بينها وبين زوجها اتسع وأنها لم تعد تحبه، ولكن لأن خططهما كانت مختلفة للغاية، ولم يرغب أيّ منهما في التخلي عما كان عليه.
تروي “أرشيف الأطفال المفقودين” من خلال العديد من الأصوات المُقنعة اللافتة، والمَزج بين النصوص والصور والنغمات، أن الأطفال الذين يعبرون الحدود لا يمكنهم التحدث في هذا الرواية، لكن يتم تمثيلهم من خلال القصص الواردة: في الأخبار، في الكتب، أو تلك التي تعتمل في الخيال. والمقصود هنا هو توثيق وتسجيل غيابهم، تلك هي الفكرة التي كانت لدى المؤلفة، وتبقى فكرة في النص أيضًا.
تعد الصور والاستعارات جزءا من تقنية الكتابة لدى الروائية، على الرغم من أنها تبدأ سردها بالتركيز على التقاط الصوت كوسيلة لتوثيق عالمنا بدلا من التركيز على السرد المكتوب. ومع ذلك، في مكان ما على طول طريق الرحلة، هناك تحول من التركيز على الصوت إلى التركيز على الكلمات، وقد تمثل ذلك التحول في إدراج مقتطفات قصيرة من كتاب خيالي يسمى “مرثيات للأطفال المفقودين” والذي يندمج في النهاية مع القصة الأساسية ويمر عبرها، لتتوحد جميع المواضيع المتباينة في هذه العملية.
توثيق بعيني طفل
تقول فاليريا لويزلي “الرواية تدور حول طرق التوثيق، وطرق السرد، وطرق إنشاء أرشيف – سواء كان صادقا أو خياليا – لتسليم القصة من الآباء إلى الأطفال، ومن الأطفال إلى الأطفال. يقوم كل شخص في الرواية بإنشاء أرشيف ليروي قصة يريد سردها بطريقته الخاصة. إن ‘أرشيف الأطفال المفقودين‘ ككتاب يدور في المقام الأول حول سرد القصص، والطريقة التي نؤلف بها الروايات، وكيف يمكن لهذه الروايات أن تصبح أو لا تصبح ما نحن عليه في فهم العالم. نحن نستخدم السرد لجعل العالم أقل رعبا، أو أكثر جمالا. وفي إطار ذلك، أردت استكشاف الطريقة التي ينقل بها الآباء القصص إلى أطفالهم، وكيف يقوم الأطفال بشكل غير متوقع برد تلك القصص إليهم”.
وتؤكد أن روايتها محاولة للدخول في شقوق أرشيفات المفقودين من الأطفال على الحدود المكسيكية – الأميركية واستخراج ما يمكن من خلاله فهم ما تم إغفاله منها، وما تم إسكاته طوعا، في نوع من الصمت المُصمم، أو في بعض الحالات فقط من خلال نوع من الجمود.
وترى لويزلي أن كتابة الروايات على وجه الخصوص ليست أفضل أداة للتنديد السياسي أو النشاط السياسي. يمكن لبعض الأعمال الخيالية المبدعة أن تقود القارئ إلى التفكير كناشط أو إلى البحث والتأمل، لكن هذا ليس شيئًا تفكر فيه عندما تكتب رواية. ولكن من ناحية أخرى، عندما كتبت قصصًا واقعية في الماضي، مثل “أخبرني كيف سينتهي الأمر”، كانت في ذهنها أجندة سياسية أكثر بكثير من الخيال المبدع.
وتكشف “هناك لحظات كثيرة كنت أطمح فيها إلى أن أصبح كاتبة. بالتأكيد كانت هناك سنوات عديدة من الكتابة وأدركت أن الكتابة كانت النشاط الذي منحني أعمق أشكال المتعة الفكرية والعاطفية، والفرح، والفضول، والرضا، وكذلك الإحباط والخوف”.
وتوضح أن “الجزء الأكثر أهمية في بنية الرواية هو حقيقة أن الصبي يروي قصته في جهاز التسجيل الخاص بوالدته، ويريد أن يحفظها لأخته، لأنها صغيرة جدًا بحيث لا تستطيع أن تتذكرها مستقبلا. تسمع الأم القصة أولا، لأنه جهاز التسجيل خاص بها، آملة أن تستقبلها ابنتها بنفس المشاعر التي أحاطت بالرحلة”.
وحول اختيارها للصبي كراو تؤكد لويزلي “كنت أعلم منذ فترة أنني أريد صوتا مختلفا، وليس صوت الأم فقط. فكرت في الزوج، ولكن بعد ذلك قررت أنهما تحدثا بما فيه الكفاية. ومن المهم أيضا بالنسبة إلى الرواية ألا تفهم من وجهة نظر الزوج. بعد ذلك فكرت في الفتاة، لكن بدا لي أن إعطاء صوت لطفل يبلغ من العمر خمس سنوات كان أمرا خطيرا حقا. من الممكن أن تصبح الرواية لطيفة أو فوضوية بسهولة. من الصعب الحفاظ على صوت طفل في الخامسة من عمره لفترة طويلة. في المقابل، لا يزال الصبي البالغ من العمر عشر سنوات ينظر إلى العالم بفضول وبراءة خاصتين جدًا بالطفولة، لكنه يتظاهر بالفعل بأنه شخص بالغ في ذلك الوقت. لا يتظاهر. إن العاشرة هي السن الذي يمكنني من خلالها الحفاظ على السرد أثناء تسليم المادة الموضوعية للكتاب إلى نظرة الصبي وصوته”.
الكاتبة تجاور بين النثر والشعر الخصيب والسرد القصصي المباشر وتبادل الحكايات بالصور والوثائق والقصائد والخرائط والموسيقى
وتضيف لويزلي “أيضًا، لأكون صادقة، تلقيت الكثير من المساعدة من الأطفال عند كتابة هذه الرواية. كنت أجري مقابلات مع الأطفال الذين أعرفهم في محيط عائلتي حول الطريقة التي سيتفاعلون بها مع ظروف معينة، مثل: ماذا ستفعل إذا ضعت في الصحراء؟ ما الذي ستخاف منه أكثر؟ ما الذي سيجعلك تشعر ببعض الراحة؟ لو هربت ما هو أول شيء ستفعله؟ لقد أجريت مقابلات جادة للغاية مع أطفال عائلتي، مع بنات وأبناء إخوتي وأخواتي ومع أطفالي”.
وتتابع “في بعض الأحيان كنت أقرأ بصوت عالٍ للأطفال في عائلتي الأجزاء المتعلقة بالأطفال فقط أو التي رواها الصبي. وكنت أحصل على الكثير من ردود الفعل العنيفة في بعض الأحيان. ضحك مثلا، ‘لا يا أمي. هذا لن يحدث على الإطلاق‘. أو كان ابن أخي يعطيني تعليمات مهمة حول كيفية تناول التين الشوكي في الصحراء. ليس هذا فحسب، بل كنت أتحدث أيضا مع الأطفال في المحكمة لفترة طويلة جدًا. كنت أترجم قصص هجرتهم، وأجري مقابلات معهم من أجل العثور على محامين يدافعون عنهم لمنع ترحيلهم. كما كنت أقوم بتدريس ورشة عمل للكتابة الإبداعية في مكان احتجاز الأطفال المهاجرين. لقد كنت محاطة بخيال الأطفال وقصصهم لفترة طويلة جدا وبطريقة عميقة جدا، ولكن هذه الأنواع المحددة من القصص”.
يشار إلى أن الكاتب تومي أورانج، مؤلف كتاب “هناك، لا شيء مما كان”، قال عن الرواية إنها رواية حفظ وأرشفة كل ما لا نريد فقدانه، تنظر لويزلي في الحاضر الأميركي، بالإضافة إلى تاريخه، في تاريخ الأميركيين الأصليين، وفي العديد من التقاطعات، الحاضرة دوما، بين التاريخين الأميركي والمكسيكي. هذه رواية رحلة على الطريق تتخطى القالب المألوف، في حين تعد أيضا رواية رحلة الطريق الأميركي المثالية في الوقت الحالي”.
وأيضا لفتت مجلة الناشرين الأسبوعية “بابليشرز ويكلي” أن الرواية تجاور بين النثر والشعر الخصيب، والسرد القصصي المباشر، وتبادل الحكايات بالصور والوثائق والقصائد والخرائط والموسيقى، تستكشف الرواية ما يجمع الأسرة والمجتمع معا وما يفرقهما. كما تظهر لويزلي كيف أن قسوة القلب والتصلب حيال الحضارات الأخرى يقوضان حضارتنا. إن روايتها تقدم حجة دامغة من أجل التعاطف”.
يذكر أن فاليريا لويزلي ولدت في مكسيكو سيتي عام 1983 وترعرعت في كوريا الجنوبية وجنوب أفريقيا والهند. بعد حصولها على إجازة في الفلسفة من الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك، انتقلت لويزلي إلى مدينة نيويورك حيث أتمت دراسة الأدب المقارن في جامعة كولومبيا ونالت شهادة الدكتوراه. تعمل حاليا في تدريس الأدب والكتابة الإبداعية في جامعة هوفسترا في مدينة نيويورك. تعد من أبرز الأصوات في الأدب المكسيكي المعاصر، حازت جوائز عدة عن أعمالها التخييلية والواقعية، من بينها جائزتان من جوائز لوس أنجلس تايمز للكتاب، بالإضافة إلى جائزة الكتاب الأميركي، وجائزة مراجعات كيركوس لأفضل الكتب الأدبية. ترجمت كتبها إلى أكثر من عشرين لغة. من أعمالها: “وجوه في الزحام”، “أرصفة” وهي مجموعة مقالات، و”قل لي كيف تكون النهاية: مقالة من أربعين سؤالا”، و”قصة أسناني”، و”أرشيف الأطفال المفقودين”.