أرسين لوبين.. صناعة الخيال

الجمعة 2016/05/06

ليس أرسين لوبين شخصية حقيقية مثلما كان يتبادر إلى أذهاننا في بدايات قراءاتنا مثلما ليس هو الواقع أيضا، لكن بين هاتين الفاصلتين تشكل الواقع عبر الخيال الواسع في هذه الشخصية الظريفة التي رافقت طفولة قراءاتنا وشكّلت أول ركيزة من الخيال في كيفية النظر إلى الواقع واستخلاصه عبر تنشيط خلايا السرد في مجهر غير واقعي يستند على فرضيات واحتمالات وجنوح إلى الفنتازيا وإلى أبعد من ذلك بكثير.

أرسين لوبين لص خيالي وشخصية صنعها الكاتب الفرنسي موريس لبلان في مطلع القرن العشرين، وتسلل إلى المكتبات العربية في ستينات القرن الماضي عبر بيروت، ولاقت هذه الشخصية الافتراضية قبولا اجتماعيا عاما في الشرق والغرب، لأنها شخصية منتَجَة إنتاجا عكسيا، بمعنى أن إنتاجها عكس السائد الاجتماعي، فهو لص ذكي وظريف وشهم كرس حياته لكشف الجريمة ومتابعتها وهو الضرورة الحاضرة في لحظتها لفك عقدة الحدث، وهو الرابط الفني والتقني أيضا لمجمل أعمال هذا الكاتب البارع في صناعة الخيال وتسويقه على أنه واقع آخر ممكن الحدوث بقناعات سردية ووقائعية وبأحداث مترابطة يكتنفها الغموض مرة والخيال في المرات كلها.

هذه الثقافة بصناعتها الخيالية السائدة في تلك الفترات السردية العفوية كانت هي المنشّط الأول لمتابعة الواقع من هذه الزوايا الراصدة بتطويعه وشدّه من أطرافه وتوطين صرعات الفنتازيا كأسلوب حديث فيه، عبر المغامرات البوليسية التي يقودها هذا اللص وهو في طريقه لأن يصنع واقعا بديلا فيه من الخير أكثر مما فيه من الشر وفيه من العدالة أكثر مما فيه من الظلم والقسوة. وكل هذا فرضيات نسبية كان موريس لبلان يتفنن بها بعنصر تشويقي في كل رواياته التي زج بها هذه الشخصية الفريدة وأصبحت شخصية حاضرة في القراءة ومن ثم السينما بل وحتى في رسوم الأطفال المتحركة حينما أعيد إنتاج بعض رواياته.

إذن موريس لبلان صانع ماهر لواقع لم يكن موجودا بهذه الشفافية عبر لصه الظريف أرسين لوبين، معبّرا بذلك عن النوع الثقافي السائد آنذاك في فرنسا، وهو نوع اختزالي مباشر بحبكة بوليسية لواقع خيالي انتشر عبر الشرق والغرب لما فيه من حكمة ومتعة وتبشير للخير والأمل.

يمكن تلمس مثل هذا التثقيف الخيالي في كل روايات لبلان وهو أمر يستفز الصور الكثيرة في مخيال القارئ المراهق الصغير آنذاك بل ويفتن حتى الكبير في المهارات السردية غير المتوقعة وإسباغ المتعة في هذه المتون الروائية السريعة التي دخلت البيوت من أوسع أبوابها بخيال ناجح، مثير، استفزازي، يشفُّ عن ذكاء سردي موريسي.

هكذا كانت بعض البدايات في جيلنا الأول – جيل القراءة لا الكتابة. الجيل الذي ولد على انفتاح الترجمات من اللغتين الفرنسية والإنكليزية، وقد تحضرني الآن هذه الشخصية المصنوعة سرديا لارتباطها بقراءات أولى لم أكن أعي بأنها ستترسخ بعد هذه التجربة وتعلمني أشياء كثيرة في كيفية صناعة الخيال والعبور إلى ضفاف سردية أخرى هي من الأهمية بمكان لصناعة سرد قصصي وروائي فيه من الخيال أكثر مما فيه من الواقع، فالخيال من أول الدروس التي تعلمتها ساردا قصصيا وروائيا، وحاولت فيه “صناعة” واقع يتماهى كثيرا مع فنتازيات الكتابة للوصول إلى السرديات الاجتماعية الأكبر في محنة الكتابة.

هكذا “صنعت” رواياتي “مولد غراب، شبيه الخنزير، عجائب بغداد، تجميع الأسد، عذراء سنجار” وكتابي الأكثر شهرة (المعْدان).

كاتب من العراق

14