أردوغان وقطر وسياسة التسريب بالقطرة

جزء من حالة التوظيف التركي للملف عبر سياسة القطرة قطرة يعود إلى تمثل أنقرة للملف باعتباره "هدية من السماء"، فلأول مرة يتحدث أردوغان عن حرية الإعلام وحقوق الصحافيين وحرمة العمل الصحافي.
الخميس 2018/10/25
متى ينتهي المسلسل التركي

يتعامل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع ملف جمال خاشقجي تعامل مخرج المسلسلات التركية الطويلة مع المشاهدين، ففي كل يوم حلقة جديدة وتطورات حديثة، وكما يتعاطى المخرج مع المعلنين والمستشهرين يتعاطى أردوغان مع الفاعلين الإقليميين والدوليين، فالملف بيضة قبان يستثمرها ضمن المسائل المستعصية والقضايا المعقدة.

يضبط أردوغان إيقاع التسريبات والتصريحات، على وقع الأثمان السياسية المتحققة وعلى ضوء بنك الأهداف المرصودة، وفي الوقت الذي يتوقع فيه الرأي العام والمتابعون التفاصيل الكاملة للقصة كما تحوزها المخابرات التركية، يختار الرئيس التركي سياسة خلق الأسئلة الجديدة واختلاق الاستفسارات المحينة في إشارة خبيثة إلى أنه لا تزال في الجعبة “مفاجآت وفواجع” أخرى.

من وراء ملف جمال خاشقجي حقق أردوغان على الأقلّ ثلاثة أهداف استراتيجية مهمة، أولها إعادة الزخم إلى العلاقات مع إدارة الرئيس دونالد ترامب ودفع فرضيات التعاون على عصا العقوبات. ثانيها إعادة تركيا إلى المشهد الإقليمي وفي قلب الأدوار الدولية بعد أن تضررت كثيرا بسبب سوء إدارة الملفات الداخلية والخارجية. ثالثها تسجيل نقاط لصالحها ضمن الصراع التركي السعودي على الزعامة السنية في العالم الإسلامي.

وهي أهداف سيتم توظيف نتائجها داخليا وخارجيا، فمن تحسين موقع تركيا التفاوضي مع الاتحاد الأوروبي عبر الابتعاد النسبي عن تهمة التضييق على الحريات الصُّحفية والسياسية، إلى إطلاق يدها في الملف الكردي سواء جنوب شرق الأناضول أو داخل سوريا، إلى تأبيد صورة الزعيم الأوحد ومأسسة شخصنة الدولة التركية إلى أمد متوسط على الأقل.

جزء من حالة التوظيف التركيّ للملفّ عبر سياسة القطرة قطرة يعود إلى تمثل أنقرة للملف باعتباره “هدية من السماء”، فلأول مرة تقريبا منذ عقد من الزمان السياسي يتحدث أردوغان عن حرية الإعلام وحقوق الصحافيين وحرمة العمل الصُّحفي، ولأول مرة منذ عقد يتجاوز أردوغان اعتباريا على الأقل تهمة تحويل بلاده إلى سجن كبير للإعلاميين والمدونين والمفكرين وأساتذة الجامعات والقضاة والمحامين.

وعبر سياسة القطرة قطرة، تنخرط قطر لتصفية حساباتها القديمة والجديدة مع الرياض، وتصعّد عواصم أوروبية خطابها سعيا إلى تحسين موقعها التفاوضي في صفقات التبادل التجاري مع السعودية، وتبدأ واشنطن لعبتها القديمة حيث اللعب على كافة الحبال دون إفراد وزنها لأي من الحبال، سيما وأنها لم تستسغ رد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على خطاب ترامب بمقايضة “المال مقابل الأمن”.

السؤال حاليا، متى سينتهي المسلسل التركي ومتى ستنزل لافتة النهاية؟ لا شكّ أنّ العديد من الأطراف الإقليمية والدولية باتت تطمح في تسوية كاملة تبدأ من الأزمة في الخليج وحصار قطر والتعاطي بشكل مختلف مع الإخوان والتيارات الإسلامية في فلسطين المحتلة وسوريا واليمن ومصر ورفع الفيتو السعودي على الدور التركي في البحر الأحمر وخاصة في جزيرة سواكن السودانية، وهي تسوية جد باهظة إذ أنها تمثل عناوين أزمة حقيقية في حال تم الإقدام عليها كليا أو جزئيا، للعلاقات السعودية الإماراتية والسعودية المصرية.

على الرياض أن تقفز قفزة كبرى تتجاوز مسلسل التسريبات الذي يحضّر لها وتحرق الأوراق السياسية التي لوّح بها أردوغان في خطابه أمام البرلمان، ولعل أهم ما يجب القيام به حاليا الانخراط في تقديم الجناة إلى المحاسبة العلنية والعامة وتنفيذ القصاص العادل، ومراجعة الفضاء الإعلامي نحو المزيد من الحرية وتقبل الرأي المخالف وإيقاف التتبعات ضدّ أصحاب الرأي، بمعنى آخر التملك الرمزي لجمال خاشقجي وإنقاذه من المستثمرين في قميصه المغدور، وما أكثرهم.

قد تكون من المرات القليلة التي نتفق فيها مع قائد الدبلوماسية التونسية خميس الجهيناوي حول موقفه من الأزمة، حيث دعا إلى تحقيق شامل في القضية والحيلولة دون استهداف المملكة العربية السعودية.

يدرك الجهيناوي أنّ المتربصين بالسعودية كثيرون، وأنّ العديدين يتربصون بالقوة الدينية الناعمة للمملكة العربية السعودية، كما يدرك في المقابل أن الحل حتى وإن كان سعوديا صرفا إلا أنّه يجب أن تكون له قابلية إقناع محليا وإقليميا ودوليا، وهو ما تستطيع الرياض القيام به والإسراع به أيضا.

8