أردوغان رجل الفقاعة في الداخل والخارج

حلول الرئيس التركي لإيقاف انهيار الليرة لا تنهي الأزمة.
الاثنين 2021/12/27
سياسات شعبوية تقود إلى انهيار الاقتصاد التركي

تحيل الأزمة التي تردت فيها الليرة التركية مؤخرا إلى السياسات التي أوصلتها إليها والتي انتهجها الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي أصبح من خلال تلك السياسات رجل الفقاعة في الداخل والخارج.

وبالرغم من أن أردوغان حاول البعث الأحد برسائل طمأنة بشأن تعافي الاقتصاد التركي، إلا أن المشكلة لم تُحل بعد في ظل المسكنات التي دفع بها في وقت سابق، حيث سيطفو انهيار الليرة مجددا بسبب السياسات التي انتهجها الرئيس التركي.

فالأساس الوحيد الذي وفر لأردوغان أن يقود نظاما، بدا مستقرا، هو أنه التفت إلى توسيع علاقات بلاده التجارية مع الخارج. وهو ما وفر للشركات التركية عائدات لم تكن لتحظى بمثلها لو أن أعمالها اقتصرت على سوقها الداخلي.

والبطل الحقيقي لهذه السياسة هو رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو الذي تبنى سياسة “صفر مشاكل” عندما كان وزيرا للخارجية في العام 2009. والهدف الرئيسي من هذه السياسة كان التفرغ لقضايا التنمية في البلاد، وفتح أبواب التعاون الاقتصادي مع كل دول الجوار فضلا عن الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي جعل الشركات التركية تمتلك قابليات للتصدير أفضل بكثير مما عرفته من قبل، عندما كانت تركيا منشغلة بمشاكلها الداخلية.

ولقد كان يمكن ضبط عملية التوسع التجاري هذه، بكبح مخاطرها التضخمية. فالأموال القادمة من الخارج، كان يحسن أن تجري مقابلتها بضبط معدلات الإنفاق الداخلي، بما لا يجبر المصرف المركزي على طباعة المزيد من الورق، بالاتكال على عائدات مستقبلية.

وتعاني الليرة التركية من مشاكل تاريخية لفقدان القيمة السريع. وهو ما يعني أن متطلبات ضبط الإنفاق كان يجب أن تكون أكثر صرامة، لئلا تطغى العوامل النفسية والتاريخية على قيمتها.

إلا أن أردوغان، مبتهجا بما حققه التوسع التجاري في الخارج، تجاهل المخاطر. واندفع إلى مشاريع إنفاق أوسع بكثير من قدرة العائدات الخارجية على تحقيق التوازن.

أردوغان صنع فقاعة مالية سمحت بوقف تدهور الليرة بإطلاق آلية لحماية الودائع بالليرة في البنوك، إلا أنها لم تحل المشكلة

تركيا تعاني في الوقت نفسه من مشكلة أن ما تقوم بتصديره من سلع، يعتمد من ناحية، على مواد أولية يجري استيرادها من الخارج، باستثناء المواد الغذائية، ومن ناحية أخرى أنها لم تحقق مركزا متقدما في التطوير يجعلها تتفوق، من حيث الجودة، على السلع المماثلة التي تنتجها كوريا الجنوبية أو الشركات الأوروبية والأميركية، ولا هي أرخص من السلع الصينية.

وبالنظر إلى أن تركيا مستورد صاف للنفط تقريبا، فإن كل عملياتها الاقتصادية ظلت محكومة بعوامل خارجية. وهو ما يعني أن التوسع الداخلي، يمكن بسهولة أن يتحول إلى عامل خطير من عوامل التضخم.

الفقاعة بدأت تنفجر عندما اندلع وباء كورونا. فعدا عن أن السياحة التي اعتمدت على مشاريع البناء الجديدة، تلقت ضربة ضخمة، فإن اختلال سلاسل الإمداد وتعطل الاستيراد والتصدير، كان من الطبيعي أن يتركا أثرا تضخميا جسيما.

حاول أردوغان في ظل هذه الأزمة أن يبحث عن فقاعة جديدة، هي التوسع في شرق المتوسط، بحثا عن النفط والغاز، لكي يغطي على مشاكله الداخلية. وبرغم أنه يعرف أن حدود تركيا لا تقبل السجال، إلا أنه أثار سجالا خاسرا مع اليونان. وبدلا من أن يقوم بتصدير السلع إلى سوريا والعراق وليبيا، فقد اختار أن يقوم بتصدير المرتزقة.

لم يكن هذا العمل خاسرا من الناحية المالية. فقد وفر له أن يبني علاقات تمويل وطيدة مع قطر، التي جعلت من تركيا غطاء لنشاطات المنظمات الإخوانية التي تدعمها.

فقاعة التوسع العسكري عن طريق استيراد وتصدير المرتزقة، حتى وإن كانت مفيدة من الناحية المالية، بفضل الغطاء القطري، إلا أنها أثارت أزمة علاقة خانقة مع الاتحاد الأوروبي إلى درجة أن الاتحاد قرر في النهاية وقف المفاوضات المتعلقة بانضمام تركيا إلى التكتل.

الليرة التركية حساسة حيال المشاكل السياسة. لأن التوسع التجاري القائم على حسن العلاقات مع الخارج، لا بد وأن يتضرر عندما تكون العلاقات السياسية مع “الأسواق” الخارجية مأزومة.

لم ينتبه أردوغان لهذا الخطر أيضا. وعندما اتخذ الاتحاد الأوروبي قراره ذاك، سرعان ما دفعت الليرة الثمن.

Thumbnail

مرت الليرة التركية بأزمتين كبيرتين خلال العامين الماضيين. الأولى أمكن حلها بودائع واستثمارات قطرية زادت على 15 مليار دولار، وباتفاقات لتبادل العملة مع بعض البنوك المركزية الكبرى. ولكن تجدر الملاحظة أن الانهيار لم يبلغ في التجربة الأولى ما بلغه في التجربة الثانية. في الأولى كان الدولار يبلغ نحو 8 ليرات. وفي الثانية بلغ سعر الدولار 17 ليرة، أي أنه جسد انهيارا يزيد على الضعف.

وهناك سبب لذلك. فعندما تكون معالجاتك لا تتوافق مع الأصول الاقتصادية المنهجية للتعامل مع التضخم، أو عندما تعتمد على إجراءات تمويل طارئة، فإن العاقبة غالبا ما تكون أوخم. وهذا ما حصل.

قطر على سبيل المثال لم تسحب أموالها، بل زادتها عشرة مليارات أخرى. وحصلت تركيا على قروض من صندوق النقد الدولي، إلا أن ذلك لم يشفع لليرة بأن تدفع الثمن مضاعفا.

ظل أردوغان يرفض رفع أسعار الفائدة لكبح التضخم الذي زاد على 21 في المئة، زاعما أن ذلك يتناقض مع معتقداته الدينية، إلا أن الحقيقة هي أن رفع أسعار الفائدة يضيف أعباء ثقيلة على الشركات التركية الغارقة بالديون.

وتبلغ ديون القطاع الخاص من النقد الأجنبي وحده أكثر من 173 مليار دولار. وارتفاع الفوائد على الليرة يعني أن هذه الشركات تضطر إلى خدمة الديون بتكاليف أعلى.

صنع أردوغان فقاعة مالية جديدة سمحت بوقف تدهور الليرة مؤقتا، وذلك بأن أطلق آلية لحماية الودائع بالليرة التركية في البنوك، إلا أنها لم تحل المشكلة.

وتقضي هذه الآلية بأنه مهما تراجع سعر صرف الليرة أمام الدولار، فإن البنك المركزي سوف يعوض الخسارة، بحيث ما كان يعادل ألف دولار، يظل يعادل ألف دولار في نهاية مدة الإيداع.

هذه الآلية نجحت في وقف التدهور، إلا أنها لم تعالج الأزمة من ناحية أصولها، وهي أن معدلات التضخم العالية سوف تظل تستهلك القيمة الشرائية لليرة. كما أن حماية الودائع لا تعني حماية الرواتب ولا خفض أسعار المواد الاستهلاكية.

Thumbnail

بمعنى آخر، فقد دفعت هذه الآلية المواطنين إلى أن يحتفظوا بأموالهم في البنوك لتبقى خارج التداول النقدي، ولكنها لم تعالج المشكلة القائمة في التداول القائم أصلا، حيث توجد ليرات أكثر مما توجد سلع، أو حيث توجد ليرات أكثر مما توجد قدرات على شراء السلع.

والعلاج الذي يقترحه الاقتصاديون، هو رفع أسعار الفائدة لكبح التضخم. ولكن أردوغان رفض الامتثال لنصائح المختصين. وكتعبير عن العناد فقد أقال رئيسا بعد آخر للمصرف المركزي.

والحال، فإنه حتى عندما يحتفظ المودعون بأموالهم فترات تتراوح بين ثلاثة أشهر وسنة، فالفكرة هي أن هؤلاء المودعين سوف يحصلون على ليرات تعادل نفس سعرها بالدولار عندما تم إيداعها.

وعلى سبيل المثال، فالتراجع الذي بلغ 45 في المئة من قيمة الليرة خلال الشهرين الماضيين، سوف يجبر المصرف على أن يسدد ما يقارب 450 دولارا عن كل ألف دولار فقد قيمته عندما تم إيداعه بالليرة.

وتواجه هذه الفقاعة دبوسين لتفجيرها. الأول، هو من أين سيأتي المصرف بالمال لتسديد النقص في قيمة الودائع؟ والثاني، هو أن منح المودعين ليرات أكثر مما أودعوه يزيد التضخم ولا يعالجه. وعلى أي حال، لا يملك المصرف المركزي التركي أكثر من 83 مليار دولار. أما الكتلة النقدية بالليرة فإنها تزيد على أكثر من عشرين ضعف هذا المبلغ.

وفي حين يبلغ العجز التجاري نحو 32 مليار دولار، فإن إجمالي الديون بلغ 446 مليار دولار حتى نهاية الربع الثاني من 2021، أو ما يعادل 58.3 في المئة من حجم الناتج المحلي، وهناك بينها 124 مليار دولار ديون قصيرة الأجل.

بمعنى آخر، فإن فقاعة التوسع في الخارج كبيرة جدا، والفقاعة في الداخل أكبر منها.

وبالنظر إلى ما أصبح تقليدا الآن، فإن ما كان 8 ليرات مقابل الدولار في الأزمة الأولى، والذي صار في الأزمة التالية 17 ليرة، سوف يعني في الأزمة التالية أن الليرة التركية سوف تنهار بمستوى أعلى مما عرفته.

يرفض أردوغان الاستجابة لمطالب المعارضة التركية بإجراء انتخابات مبكرة. وهذا شيء حسن في الواقع. فعندما يصبح الدولار 30 ليرة، سوف يرى أردوغان أنه هو نفسه، كان مجرد فقاعة.

11