أردغة فيسبوك.. ممنوع الاقتراب من "ماضي" السلطان

بعد أن كان فيسبوك "ثورة" أحدثها الخواجة الشاب مارك زوكربيرغ، يبدو الآن في طريقه إلى أن يكون “دولة”، ليس بممارسة استبداد في تغيير شكل صفحة فيسبوك من دون استشارة عينات من مستخدميه الذي يزيدون على 2.5 مليار، وإنما بالتدخل في المضمون.
الأربعاء 2020/10/07
معايير فيسبوك تتبدل بين يوم وآخر

الحلم بوسيلة إعلامية مثالية يقترن بتحقق اليوتوبيا على الأرض. وحتى يوجد هذا المستحيل فسوف تتصارع الإرادات والمدارس والإمكانات والأخيلة. ومما كنا ندرسه في كلية الإعلام بجامعة القاهرة، قبل انهيار الاتحاد السوفيتي، أن المدرسة الاشتراكية تتيح للجمهور فرصا أكبر للمشاركة الشعبية في إعلام شبه موضوعي، مقارنة بالمدرسة الليبرالية، لأن يد الدولة مهما تكن استبدادية أرحم من غول الرأسمالية واستبداد رأسماليين يحتكرون طاقة البشر والمعلومات، ما لم يضخّ النشر في جيوبهم.

ولا تكون وسائل الإعلام الخاصة إلا واجهة لإمبراطوريات المال. ولم يصمد الاحتكار المزدوج أمام الانفجار الإلكتروني، وهناك شبان يتحدون غيلان الرأسمالية بإتاحة كتب وأفلام ومعلومات، وهي قرصنة تغضب الناشرين الجادين.

ولكن قانون الزمن يهذب الثورات ويحكم المصائر، فبعد أن كان فيسبوك “ثورة” أحدثها الخواجة الشاب مارك زوكربيرغ، يبدو الآن في طريقه إلى أن يكون “دولة”، ليس بممارسة استبداد في تغيير شكل صفحة فيسبوك من دون استشارة عينات من مستخدميه الذي يزيدون على 2.5 مليار، وإنما بالتدخل في المضمون، حتى أنه يجد حساسية في بعض ما يمسّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان شخصيا.

في الفترة السابقة كان فيسبوك يخفي صورا فوتوغرافية تنطوي على عنف أو عري، وفي بعض الأحيان يبدي تشددا إزاء لوحات عارية من كلاسيكيات الفن التشكيلي، ويرفق رسالة ذات طابع إنساني يمكن تفهمها في حالة تفادي التطبيع مع العنف. ولم أتصور أن يمتد هذا التدخل في مضمون صورة نشرتُها في حسابي قبل سنوات لأردوغان مع الزعيم الأفغاني قلب الدين حكمتيار، وظل فيسبوك يذكّرني بها في الذكرى السنوية لنشرها، ثم قام هذا العام بحجب الصورة والإبقاء على كلامي المصاحب لها، مع رسالة تحذيرية أولى. ولم أتخيل أن لأردوغان هذه الحظوة أو السطوة.

نويت أن أكتب للخواجة مارك أنني لست شريرا، وليس بين أردوغان وبيني ما يثير ضيقه، ضيق أردوغان أو ضيق مارك، وأن أطلعه على عادتي الغريبة في التوقف أمام جذور الأشياء والظواهر، وتقصّي ذلك في الصور القديمة وفي أفلام الأبيض والأسود، لأراقب تطورا طبيعيا من ثمار الاجتهاد الشخصي، أو طفرات غير طبيعية تتدخل فيها عوامل خارجية تقترب من تواطؤات ومؤامرات تصطنع آلهة، لتسخيرهم لاحقا في خدمة أهداف الخالقين.

كدت أكتب إليه أنني، على سبيل المثال، عدت إلى مشاهدة فيلم “ممنوع الحب” (1942)، للبحث عن سر اختيار مخرج الفيلم محمد كريم للسمراء هنومة محمد، حبيبة العقاد، للظهور في مشهد صامت بعينيها. ولا أعرف متى كتب، للمرة الأولى في تترات فيلم، اسم تلك الفتاة التي أصبحت الممثلة مديحة يسري. ولم يكتب مخرج “ممنوع الحب” الأسماء الكاملة لنجومه، واكتفى بكادر ثابت يتوسطه محمد عبدالوهاب، ويد تشير إلى صور الممثلين مصحوبة بتعليق صوتي: عبدالوهاب، رجاء، عبدالوارث، حسن كامل، أمين وهبة، ليلى فوزي، ثريا فخري، عبدالعزيز خليل، زينات صدقي، محمد أمين، عزيزة بدر (عبدالوارث هو عبدالوارث عسر.. ورجاء هي رجاء عبده) ولم يكن الجمهور يحتاج إلى معرفة الأسماء الكاملة لهؤلاء الثلاثة.

أتابع دراما الصعود والثبات والهبوط، فأشاهد فيلما غير مشهور عنوانه “الإيمان”، عرض في فبراير 1952، سيناريو وإخراج أحمد بدرخان، ومونتاج كمال الشيخ الذي سيصبح من أهم المخرجين، وبطولة محمود المليجي الذي جاء اسمه قبل بطلة الفيلم ماجدة، ثم فريد شوقي ونور الدمرداش وسناء جميل، وتشارك في الفيلم زهرة العلى بكير، وهي الممثلة زهرة العلا.

أترك السينما المصرية، وأنشر صورا إحداها لأم كلثوم مع الشاعر العراقي معروف الرصافي، في بغداد عام 1932. وصورة للناشط الأميركي جون كيري، في قاعة فقيرة عام 1971، يخطب محتجا على عدوان بلاده على فيتنام. وصورة أخرى لجون كيري وزير الخارجية، في قاعة رسمية فخمة عام 2013، يدعو إلى الحرب على سوريا، بزعم القضاء على دكتاتورية بشار الأسد.

ومنذ سنوات، لا أستطيع معرفة عددها بدقة لأن الخواجة حذف المنشور كله، وضعت صورة يجلس فيها زعيم الحزب الإسلامي الأفغاني قلب الدين حكمتيار، وعلى يساره يجلس أردوغان وعلى يمينه شخص قلت إنه راشد الغنوشي، وتبين أنه رجل الأعمال التركي مصطفى أطلاي عضو حزب الرفاه، وأن الصورة التقطت في بيته بإسطنبول، عند زيارة حكمتيار لتركيا في بداية التسعينات. وقام أطلاي باستضافة حكمتيار، لمدة أسبوع، بطلب من نجم الدين أربكان رئيس حزب الرفاه الذي كان أردوغان عضوا فيه.

وفي سبتمبر 2020 أتتني رسالة أولى من الخواجة تقول “هذا المنشور يتعارض مع معايير المجتمع لدينا”. وتذكرني بأن من حقه أيضا “إزالة أو تقييد الوصول إلى المحتوى أو الخدمات أو المعلومات الخاصة بك”. وبعد أيام من تحذيره المبدئي الذي أبقى فيه على الكلام وحجب الصورة، حذف المنشور كاملا، في صمت دون إبلاغي بقراره.

لا أجد لهذا الاستبداد تفسيرا، وهناك شواهد على حظر تأديبي يستمر يوما لهذا الحساب، وشهرا لذاك، حسب تقدير القاضي الفيسبوكي. ولم يوضح الخواجة الرقيب لماذا تظل صورة في حسابي بضع سنوات، ويواظب على تذكيري بها سنويا، ثم تصبح الصورة نفسها متعارضة مع المعايير المهنية؟

ربما تقدم اللغة العربية تفسيرا لا علاقة له بالأردغة الأخيرة للتصميم الجديد لصفحات فيسبوك. في “المكنز الكبير” الذي وضعه علم اللغة المرحوم أحمد مختار عمر، أجد في صفحة 597 مادة “الطين”، وفيها: “رَدْغة: وحْل كثير”. والمكان رَدِغ بمعنى وَحِل، أي كثرت رَدْغته. وأردغ المكان: كثرت فيه “الردغة”، وهي الوحل. ولا أعرف طبيعة العلاقة بين ردغة اللغة وأردغة فيسبوك.

18