أرجنتينية تبحث عن والديها فتكشف فترة مظلمة من تاريخ بلادها

رواية الكاتبة الأرجنتينية إلسا أوسوريو"اسمي نور" تكشف خفايا الحرب القذرة في الأرجنتين.
الثلاثاء 2018/10/23
الجدات قاومن "الحرب القذرة" بالذكرى

تتتبع رواية “اسمي نور” للكاتبة الأرجنتينية إلسا أوسوريو، وهي الرواية الفائزة بجائزة منظمة العفو الدولية، رحلة بحث لامرأة عن والديها الحقيقيين، لكشف أسرار ولادتها وتبنيها من قبل عائلة أخرى خلال سنوات الاضطراب التي عرفت في الأرجنتين بـ”الحرب القذرة” في فترة السبعينات، وراح ضحيتها الآلاف من المعارضين السياسيين.

 

ليس هناك ما هو أقدر من الفن على مساءلة التاريخ وكشف خفاياه واستعادته بأشكال مختلفة عن صورته الرسمية، التي تكون غالبا مدونة من قبل السلطة أو المنتصر. ونجد الكثير من الروايات قدمت شهادات صادمة عن مراحل تاريخية مشحونة، مثل “الساعة الخامسة والعشرون” في حديثها عن الحرب العالمية الثانية أو “قلم النجار” التي تطرقت إلى الحرب الأهلية الإسبانية، وأخيرا رواية “اسمي نور” التي كشفت خفايا الحرب القذرة في الأرجنتين.

في هذه الرواية تنطلق “لوث” وهي بطلة الرواية من الأرجنتين في رحلة بحث عن هويتها، وعن ماضيها الذي يتعلق بأكثر المراحل التاريخية ظلاما في تاريخ الأرجنتين، هذا الماضي الذي ظلت لسنوات طويلة لا تعرف عنه شيئا، لكنها تكتشفه فجأة ودون سابق إنذار. هذه الرواية تكشف الغطاء عما حدث في الأرجنتين في فترة من أظلم فتراتها في التاريخ، من ناحية قمع الحريات والقوى المعارضة للجيش والحكم، والطرق المتوحشة التي اتخذتها السلطات الأرجنتينية إبان تلك االحقبة في قمع وإسكات كل معارض لها، والتي كان أبسطها الاختفاء القسري.

منظمة الجدات

الرواية مكتوبة بطريقة مختلفة تبدأ من الحاضر وتعود إلى الماضي، وتكشف عن العديد من الشخصيات والعلاقات، مع مفاجآت غير متوقعة طوال الأحداث. في قلب عملها الأدبي ذلك تستكشف الكاتبة الكثير من الحقائق في تاريخ الأرجنتين المعاصر، إذ ترتبط أحداث الرواية بالعديد من الوقائع الحقيقية التي شكلت المناخ السياسي للأرجنتين الحالية. تطالعنا على سبيل المثال البدايات الأولى التي شكلت ما يعرف بمنظمة الجدات، وهي منظمة تشكلت عقب هذه الاضطرابات التي شهدتها الأرجنتين وتكونت من أمهات النساء المخطوفات أو اللاتي تعرضن للاختفاء القسري على يد السلطة القمعية. ففي تلك السنوات التي أعقبت الحكم العسكري في الأرجنتين عام 1976 اختفى نحو ثلاثين ألف سجين سياسي داخل المعتقلات ولم يعثر لهم على أثر.

كانت الإعدامات تتم في الخفاء بعد عمليات تعذيب وحشية وصفها بعض الناجين من هذه المعتقلات في ما بعد. ومن أبشع الوسائل التي كانت متبعة في هذه المعتقلات ما كان يتم مع النساء الحوامل، إذ كن يعفين من التعذيب حتى يضعن ما في بطونهن، ثم يسقن إلى الموت في ما بعد، أما هؤلاء المواليد الصغار فكانوا يودعون لدى أسر بديلة تتولى تربيتهم وتنشئتهم، وغالبا ما كانت هذه الأسر من الدائرة القريبة من الحكم العسكري. بطلة الرواية لوث هي واحدة من هؤلاء الأطفال الذين ولدوا في السجن، إذ كانت والدتها “ليليانا” عضوا في منظمة يسارية سرية تكافح ضد الحكم العسكري في الأرجنتين. وقد تمثلت مهمة منظمة الجدات في البحث عن الأطفال الذين ولدوا للأمهات المعتقلات ولم يعثر لهم على أثر.

بطلة الرواية من الأرجنتين تخوض رحلة بحث عن هويتها، وعن ماضيها الذي يتعلق بمرحلة مظلمة في تاريخ الأرجنتين
بطلة الرواية من الأرجنتين تخوض رحلة بحث عن هويتها، وعن ماضيها الذي يتعلق بمرحلة مظلمة في تاريخ الأرجنتين

“لا شيء يدوم تحت ضغط التعذيب.. لا الصداقة، ولا المحبة، ولا الإخلاص.. لا شيء بتاتا”، هكذا تعلق الكاتبة على ما كان يتعرض له المعتقلون في سجون النظام من تعذيب وحشي. “في سجون السلطة المستبدة تجتمع عذابات الناس، لا شيء غير الصراخ والألم، ألم القهر الذي يسحق النفوس وينزع من داخلها أي بادرة أمل”، في هذه السجون ولدت لوث لأم شابة ومناضلة ضد القمع وأب مطارد. لم تتعرض الأم للتعذيب كالأخريات، فسجانها كان حريصا على ما تحمله أحشاؤها، كي يهديه إلى حبيبته. ولكن يشاء القدر أن تتحول وجهة هذه الهدية الاستثنائية إلى رجل آخر، وهو الكولونيل “دوفاو” ذلك الرجل ذو القلب المتحجر. أهدى الكولونيل دوفاو الرضيعة لوث إلى ابنته ماريانا ليعوضها عن حرمانها من الإنجاب. هكذا تولد لوث وحيدة، تحيطها المطامع والصراعات، وتُقتل أمها وهي تحاول نيل حريتها، بعد أن تُودِع سرها قلب امرأة أخرى.

انكشاف السر

تكتمت ماريانا ابنة الكولونيل على السر وترعرعت ابنتها بالتبني وهي تجهل هويتها تماما. غير أن خطة الكولونيل دوفاو الذي اعتقد أنها مُحكمة تمام الإحكام لم تتسم بالكمال، فثمة ثغرة وحيدة اسمها ميريام لوبيز، وهي عارضة أزياء معتزلة، وفي نفس الوقت رفيقة أحد مساعدي دوفاو المخلصين. كان الجنرال قد استعان بميريام لوبيز لرعاية الطفلة وأمها في الأيام القليلة التي قضتها ابنته في المستشفى، وخلال هذا الوقت القصير الذي قضته الطفلة وأمها في بيت لوبيز نمت علاقة وطيدة بينهما. كانت ميريام لوبيز تعرف جيدا أن مصير الأم هو الموت المؤكد، فالكولونيل الدموي لن يترك وراء فعلته أي أثر. حاولت لوبيز إنقاذ الأم من المصير المحتوم، لكنها فشلت في النهاية، فأقسمت أن تُطلع الطفلة على حقيقتها مهما طال الزمن. تبدأ ميريام رحلتها في الهرب من ملاحقات دوفاو، وتستطيع في النهاية إطلاع الطفلة بعد أن صارت شابة يافعة على حقيقة الأمر. فتبدأ الشابة من جانبها في رحلة بحث شاقة ومعقدة عن والديها الحقيقيين، حتى تتوصل في النهاية إلى مكان والدها في منفاه الاختياري في إسبانيا.

تنطوي الرواية على الكثير من المفارقات التي تصل إلى حد المبالغة أحيانا، لكنها مفارقات مقبولة، إذا ما تم النظر إليها من واقع الحوادث العبثية التي تتعرض لها الرواية ككل، فالرواية مستوحاة بالفعل من وقائع حقيقية حدثت في الأرجنتين في تلك الفترة. وقد تبدو أحداث الرواية أكثر قابلية للتصديق إذا ما قورنت بتلك الوقائع الحقيقية، والتي مازالت آثارها ونتائجها باقية.

ونشير إلى أن منظمة الجدات مازالت تعمل على لم شمل العائلات التي تعرضت لمثل هذه الانتهاكات البشعة تحت الحكم العسكري، ومازالت المئات من قضايا النسب المتعلقة بتلك الحقبة عالقة في المحاكم الأرجنتينية حتى اليوم.

ونذكر أن رواية “اسمي نور” صدرت نسختها العربية حديثا عن دار العربي للنشر في القاهرة وتولت ترجمتها إلى العربية ريم داوود.

14