أدباء مثقفون.. لكنهم منسيون في أوطانهم

تونس تقسو على مثقفيها وتحجبهم في نسيان الموت أو ضباب الجنون.
الثلاثاء 2024/03/05
الوطن الجحود على مثقفيه وفلتاته (لوحة للفنان كيفان الكرجوسلي)

الكثير من المبدعين في تونس يمزقهم الإحباط في حياتهم ويأكلهم النسيان في مماتهم، إذ لا نجد تثمينا لما يقوم به المبدعون، بل هناك نوع من الجحود والنكران وحتى الملاحقة لهم، ما يؤدي ببعضهم إما إلى الموت كمدا أو فقدان عقله وانتهائه حكيما دونكيشوتيا في مستشفى الأمراض العقلية.

لا عزاء في تونس اليوم سوى لمَنْ ولدته أمّه منتصبا عليّا، لا يصارع ولا يجاهد من أجل الحياة. الحياة التي يهبها أيّ منا كل شيء ولكنها لا تهبه في النهاية سوى البعض من أثر قد يزول بزوال صاحبه إلى عالم الأموات.

صنوف شتى يُكنّى بها كتّاب مبدعون من محللي الرأي في عالم الأدب والرواية والسيرة الذاتية والصحافة بشقيها الورقية والإلكترونية. لكنّ أجودهم وأقربهم إلى قلوب الناس هم أولئك الذين يبتدعون أسماء لهم من لا شيء. من فضاء رحب حولهم، من حكاية صغيرة يخرجونها للناس في أبهى صورة، من تخريجة طريفة تستهوي القراء وتشدّهم إلى متابعة يومية أو أسبوعية لما تخط أناملهم.

في مستشفى الرازي

في بلدي تونس الكثير من الفلتات في هذا المضمار، يعيشون على الحواف، يأكلون الرغيف وينتظرون الموت. لا عزاء لهؤلاء سوى أنهم ولدوا في بلد فقير، مفقر، أضحى الطبيب فيه مختلا عقليا، والفيلسوف مضطربا نفسيا، والأديب مضطهدا ومتروكا في العراء.

إذا أردت أن تتحقق من واقع هذه المقاربة، فإن زيارة خاطفة إلى مستشفى الرازي للأمراض العقلية بالضاحية الغربية من تونس العاصمة وجولة قصيرة بين جدرانه السميكة ستكشفان لك واقع الحال. هناك تتعرف على عوالم مكتومة بين ثنايا حدائقه المزهرة وأقسامه المتراصة بالقضبان الحديدية السميكة. واقع مرّ والأمرّ منه مرويات أولئك الذين شاء القدر أن يكونوا من نزلائه للتداوي من إرهاق عصبي أو اضطراب نفسي أو ما شابههما من توصيفات المختصين والأطباء.

ما قيل عن هذا الوطن الجحود على مثقفيه وفلتاته التي لا تتكرر ليس لوما فحسب وإنما دعوة بليغة إلى التصحيح
ما قيل عن هذا الوطن الجحود على مثقفيه وفلتاته التي لا تتكرر ليس لوما فحسب وإنما دعوة بليغة إلى التصحيح

كمْ خُيّل لي عندما كنت طالبا في كلية الآداب والإنسانيات في منوبة أنني ألتقي بأحدهم عند مروري اليومي من أمام مستشفى الرازي مسترقا النظر إلى الداخل، أن هؤلاء كلهم مرضى عقلانيون. فكرت يوما في الدخول والقيام بجولة مثل بقية الزوار رغم أنه ليس لي أحد نزيلا فيه.

 ظننت في البداية أن جولتي ستكون قصيرة نظرا إلى غرابة المكان وما كانت تكتنزه ذاكرتي من أفكار مسبقة عن هؤلاء. لكن المفاجأة كانت كبيرة قياسا بنوعية الأشخاص الذين التقيتهم وقادني فضولي إلى الحديث معهم. هذا يجلس إلى أقاربه وخلانه يجاملونه ويربتون عليه من أجل النهوض ونسيان ما مرّ عليه. ذلك يتحدث شريدا عن مغامراته، وتلك تقهقه لا مبالية بما يدور حولها وترتشف قهوتها بحرقة مدخنة السيجارة وراء الأخرى، وآخر يجلس وحيدا على كرسي إسمنتي. دنوت منه، دعاني إلى الجلوس في صمت بعينيه الناظرة ناحيتي دون أن ينطق بكلمة. ظننته في البداية أخرس. بادرت بسؤاله: كم لديك هنا؟ أجابني برفع إصبعي السبابة والوسطى مشيرا إلى اثنين. قلت له: لديك يومان؟ أعاد الكرة. قلت: لديك شهران؟ أجاب برأسه هذه المرة. قلت إذن سنتان. شاطرني الرأي بتحريك رأسه معلنا أن المدة الزمنية صحيحة. قلت له: ولماذا أنت هنا؟ نطق هذه المرة ولكنه يا ليته ما نطق، معبّرا عن كم واسع من الحرقة والأحاسيس الفياضة التي لا تستطيع الجبال تحملها.

 أنا هنا لأنه أريد لي أن أكون هنا، عشت سنوات طويلة في العراق، بلد الحجاج والمتنبّي والخلفاء الراشدين، بلد الحضارة والثقافة والعلم، عراق الرجال، عراق صدام حسين والدوري والصحاف وغيرهم الكثير، لكن لعنة الزمن هي التي قادتني إلى هذا الحال. تزوجت ولي طفلان وزوجتي عراقية، عدت إلى تونس بعد الغزو الأميركي في العام 2003، هاربا من بطش الاعتداء والمحاسبة لأنني كنت محسوبا على البعثيين رغم أن لا انتماءات لي. درست بالجامعة وحصلت على شهادة جامعية في الحضارة، لكنني اخترت أن اشتغل بائع كتب بانتظار دوري في التدريس. أعشق أن أكون بين طلاب العلم، أمدهم بما أوتيت منه إلا القليل.

تنهّد وتابع حديثه عن مغامراته الطويلة وكيف كان يقضي كل أوقاته في ترتيب الكتب وتجهيزها للبيع على الرصيف في شارع المتنبي في وسط بغداد.

كان سؤالي محيّرا ومؤثرا بالنسبة إليه عندما قلت له: هل تُفكّر في العودة إلى العراق حين تهدأ الأجواء ويعود العراق إلى هدوئه المعتاد؟ أجاب وهو مطأطئ الرأس: العراق لن يعود إلى ما كان عليه آنفا، “عراق صدام لن يعود”، العراق بين يدي الأميركان الآن وسيقدمونه هديّة إلى زبانيتهم وعملائهم من المندسين والخونة.

القسوة على المبدعين

في بلدي تونس الكثير من المبدعين في الفن والأدب وغيرهما يعيشون على الحواف ويأكلون الرغيف وينتظرون الموت

صعقت بكلام الرجل وأنا أطوي الحوار الذي طال معه وشدّني حديثه عن “الفترة الذهبية” التي قضاها في العراق وقد تفطن بذكائه إلى أنني أريد الانصراف وقرأ سؤالي الذي لم أوجهه إليه، فقال في ذكاء: نعم مازلت هنا، مُرّ عليّ متى شئت، هذا موطني الثاني، مستشفى الرازي نعم موطني الذي أريد لي أن أقضي ما تبقى لي من عمر في “زنزاناته”.

غادرت “سجن” الرازي والحيرة تأخذ مني مأخذها وأسئلة عديدة تختمر بذهني، ماذا فعل هذا الرجل في دنياه ليكون عقابه على هذا النحو؟ هل هو حالة نادرة أم أن كثيرين أمثاله ينتظرون عقابهم بسبب الحروب والثورات والأزمات الخانقة ليكون مصيرهم النفي داخل أوطانهم؟ ليس هذا حالة نادرة في بلد مفرّخ للأدمغة والكنوز من أباطرة العلم والمعرفة والعلوم والرياضيات والقائمة تطول ممن تسمع عنهم يوميا أنهم روّاد في هذا الميدان أو ذاك.

خلاصة ما انتهيت إليه أن تونس بلد بات يضيق على أهله وناسه وعلى كتابه وشعرائه وأدبائه ممن تركوا في الفناء الآخر. لكن تونس أيضا تحمل كنوزا مبعثرة في أركان المعمورة، كنوزا لو جُمعت على أرض هذا الوطن الصغير في جغرافيته، الكبير بمبدعيه ومثقفيه لكانت الطفرة والإقلاع غير متوقعين.

آه يا تونس كما قيل وقلت وقالوا عن هذا الوطن الجحود على مثقفيه وفلتاته التي لا تتكرر، ليس لوما وإنما دعوة بليغة إلى التصحيح كي لا يُقال إن “الأدباء والشعراء في تونس يموتون ويسجون بلا كفن”.

12