أحمد لعرابة عراب الدساتير الجزائرية المكرسة للأحادية السياسية

لعرابة يبقى من بين أكثر الشخصيات الغامضة في الجزائر وظل الملاذ الذي قصده بوتفليقة وبعده تبون.
السبت 2020/10/31
فقيه دستوري يبحث عن تشريع للمواطنين لا للمؤمنين

منذ إعلان السلطة الجزائرية عن تعديل الدستور احتل أستاذ وخبير القانون الجزائري المعروف أحمد لعرابة المشهد السياسي في البلاد، ويبدو أن الرجل الذي هندس التعديلات الأربعة المتتالية على الدستور، من الرئيس الأسبق إلى الرئيس الحالي، لم تكن يداه متحرّرتين إلى درجة الهدف الذي كان يطمح إليه، لأنّ معاركه مع الإسلاميين والمحافظين أجّلت دستور المواطن وليس دستور المؤمن، ولم تختف في طبعته مكونات الهوية التي تُوقع اختفاؤها نهائيا.

أخفق لعرابة في تمرير الأفكار التي ألمح إليها في خضم الجدل الذي أثير حول التعديلات الدستورية في البلاد، الأمر الذي يؤكد أنه لم يكن صاحب ورقة بيضاء في رسم الوثيقة التشريعية الأولى، لأن مخرجاتها النهائية لم تتضمن الخروج من “دستور المؤمنين إلى دستور المواطنين، ولا ما يوحي إلى بداية اختفاء عناصر الهوية”.

ملاذ الباحثين عن الخلود

تصريحات لعرابة حول "دستور المواطن واختفاء ثوابت الهوية" تبدو وكأنها جاءت بسبب إيماءات وجّهت إليه بعدم الخروج عن الخطوط التي رسمت له.
تصريحات لعرابة حول "دستور المواطن واختفاء ثوابت الهوية" تبدو وكأنها جاءت بسبب إيماءات وجّهت إليه بعدم الخروج عن الخطوط التي رسمت له.

وإذ يعتقد الإسلاميون والمحافظون أن ضغطهم هو الذي دفع اللجنة التي أوكل لها الرئيس عبدالمجيد تبون، مهمة تعديل الدستور إلى مراجعة أوراقها تلبية لمطالب وعائهم الشعبي، إلا أن بصمة أصحاب القرار تبدو واضحة على النسخة التي مررت إلى الاستفتاء الشعبي، لأنهم لا زالوا في حاجة إلى دعم هؤلاء أمام معارضة شعبية تأبى الانكفاء.

ويبدو أن لعرابة صاحب البصمات الواضحة على دساتير البلاد في التعديلات المدرجة عليها خلال العقدين الأخيرين، حافظ على طبيعة الوظيفة التي تتطلب الامتثال لتوجيهات الرؤساء، ولم يتجرأ على تقديم معارفه وخبراته القانونية والدستورية في أيّ من التعديلات التي كلّف بها، بعدما تنازل عن مدننة الدولة بإخراجها من دستور المؤمن إلى دستور المواطن، لإرساء قواعد المواطنة ويكفل بذلك حق الاختلاف والتنوع داخل الوطن الواحد، كما أنه لم يحيّد الثوابت الهوياتية عن التجاذبات الإثنية واللغوية والجهوية.

ما يؤكد أن الخبير الأممي لعرابة ظل يلعب دور الباحث عن المخارج الآمنة لأصحاب القرار أنه اضطر لتقديم توضيحات ترجمت توجهات السلطة الجديدة في الدستور الجديد، تفاديا للغط الذي أثارته تصريحاته حول “دستور المواطن واختفاء ثوابت الهوية”، ولإيماءات قد تكون وجّهت إليه بعدم الخروج عن الخطوط التي رسمت له، خاصة وأن مسؤولا ساميا سابقا في رئاسة الجمهورية لم يتوان عن القول إن “الدستور الجديد فرضته إملاءات خارجية”، قد يكون قد قصد منها مسألة رفع الحظر الدستوري عن المؤسسة العسكرية خارج حدودها الإقليمية، والتكيف مع عولمة التشريعات.

ذكر حينها لعرابة، أنه و”بعدما أكملت اللجنة مهمتها وفقا لرسالة تكليف رئيس الجمهورية، ووضعت مقترحاتها في متناول الطبقة السياسية والمجتمع المدني والمواطنين من أجل المناقشة والإثراء، لاحظت أن النقاش على مستوى بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي قد انحرف في الكثير من الحالات عن الهدف المرجوّ والمتمثل في إثراء مشروع الوثيقة“. وأضاف “أنه لا أحد من أعضاء اللجنة كانت له صفة عضو في أيّ من اللجان التي شاركت في إعداد الوثائق الدستورية السابقة، وأن بعضهم قد استقبل كباقي الكفاءات والشخصيات الوطنية من قبل الجهات التي أشرفت على الحوار”.

كل ذلك يوحي أن اللجنة التي أدارها لعرابة افتقدت للشجاعة اللازمة، أو أنها لم تكن طليقة الأيدي في إنجاز التعديلات الموصوفة بـ“العميقة”، وأن الأفكار الهرمية التي يرمى بها لعرابة، لا تجد لها من السند الشعبي ما يكفي، فقد كان ضجيج الإسلاميين والمحافظين وربما أطراف في هرم السلطة، كفيلاً بالتنازل عنها سريعا رغم أن الشارع الجزائري لم تتح له الفرصة كاملة للإدلاء بدلوه في الموضوع.

يقول لعرابة إن ”الادعاء بحذف الإشارة إلى بيان أول نوفمبر 1954 من ديباجة الوثيقة عار عن الصحة، لأن البيان المذكور لم يكن منصوصا عليه في الوثائق الدستورية السابقة لتتهم اللجنة بحذفه الآن“، ويؤكد أنه ”في ما يخص المس بالثوابت الوطنية لم يتم النقاش حولها وبقيت ثابتة في الدستور كما كانت سابقا، غير أنه بالنسبة إلى الأمازيغية باعتبارها مكونا من مكونات الهوية الوطنية إلى جانب الإسلام والعروبة، فقد سبقت ترقيتها إلى لغة وطنية ثم إلى وطنية ورسمية في التعديلات السابقة، وحتى لا تبقى سجلا يتاجر به، ارتأت اللجنة إدراجها ضمن المواد التي يحظر تعديلها”.

خطوط حمراء

لعرابة الذي يعدّ مهندس التعديلات الأربعة المتتالية على الدستور، من الرئيس السابق الى الرئيس الحالي، لم تكن يداه متحررتين إلى درجة الهدف الذي كان يطمح اليه، لأن معاركه مع الإسلاميين والمحافظين أجّلت دستور المواطن لا دستور المؤمن.
لعرابة الذي يعدّ مهندس التعديلات الأربعة المتتالية على الدستور، من الرئيس السابق الى الرئيس الحالي، لم تكن يداه متحررتين إلى درجة الهدف الذي كان يطمح اليه، لأن معاركه مع الإسلاميين والمحافظين أجّلت دستور المواطن لا دستور المؤمن.

كان الخبير القانوني قد أدى، بذلك، دور الموظف المكلف بمهمة وليس الأستاذ المساهم المفيد، فكما نصح الرئيس الأسبق عبدالعزيز بوتفليقة بتجاوز مأزق العهدتين الرئاسيتين في الدستور السابق، بتعديل العام 2008، ليفتح له المجال للبقاء أطول مدة ممكنة في هرم الدولة، ها هو يمهد الطريق أمام الرئيس الجديد عبدالمجيد تبون لتنفيذ أجندة السلطة الجديدة.

وبذلك تلاشت مقاربته القائلة بأن الدساتير موجهة لمواطنين وليس لمؤمنين، وأن عناصر الهوية يمكن إبعادها عن الدستور، ليكون بإمكان الجزائري أن يصبح مواطنا جزائريا دون أن ينتمي إلى العروبة أو الأمازيغية أو الإسلام، لكن يبدو أن الرجل، الذي قضى عمره في المدرّجات وأروقة الجامعات والمؤسسات التشريعية، يخشى أو لم يهتد إلى مقاربة لإقناع حشود المقترعين في الأحياء والقرى والأسواق والمقاهي بأفكاره.

لكن لعرابة الذي انتقد الدستور الذي أدخل الجزائر عهد التعددية والانفتاح العام 1988 واتهم المحيط الضيق لرئيس الدولة آنذاك الراحل الشاذلي بن جديد، بنسج خيوط ما وصفه بـ“الوثيقة المأزق”، في إشارة إلى مآلات العهد السياسي المستجد آنذاك، يبدو أنه مناصر وفيّ لتوجه صناعة دساتير الدكتاتوريات الجديدة، ليحافظ لتبون على نفس الصلاحيات المفتوحة رغم شعارات التغيير والإصلاح، ورغم أن المطاف انتهى ببوتفليقة إلى الخروج من الباب الضيق.

ويبقى لعرابة عرابا للدساتير، رغم أنه يعتبر من بين أكثر الشخصيات الغامضة في البلاد، إلا أنه ظل الملاذ الذي قصده بوتفليقة وبعده تبون ليضع لهما المنصة التشريعية التي تتيح لهما البقاء في السلطة والاستحواذ على مصادر القرار.

وفي سنة 1996 تمّ اعتماد دستورٍ جديدٍ وضعه الرئيس السابق اليامين زروال، في ذروة العشرية السوداء، وهو الدستور الذي استطاع من خلاله النظام الجزائري دفن دستور 1989 الذي كاد يطيح به، ويغلق لعبة الصراع حول السلطة، ليكون دستور 1996 الحجر الأساس للتعديلات الدستورية المتتالية التي أجراها رؤساء الجزائر المتعاقبون.

وبمجيء بوتفليقة إلى السلطة كانت نوايا الرجل تتجه للبقاء في السلطة أطول مدة ممكنة، غير أن الدستور حينها كان يتيح اعتماد عهدتين رئاسيتين لكل رئيس، ليبدأ بوتفليقة مسلسل الإطاحة بالدستور من خلال ثلاثة تعديلات، الأمر الذي مكنه من الاستحواذ على صلاحيات وصفت بـ“الامبراطورية” في نظام جمهوري.

ورغم أن وثيقة العام 2016، التي جاءت في سياق إصلاحات سياسية وهمية، انتهت إلى انتفاضة الشارع الجزائري على نظام بوتفليقة، ودخلت معها البلاد في أزمة متواصلة إلى الآن رغم تنحّيه عن السلطة، إلا أن الرئيس تبون، الذي دفعت به الأحداث إلى الواجهة، يكرر نفس السيناريو مع طبعة جديدة لدستور هندسه أحمد لعرابة، والذي وصفه منتقدوه بأنه “دستور أزمة”، ولدته ظروف معينة وجاء لمعالجة وضع معين، ولم ينه أسباب الأزمة السياسية التي تتخبط فيها البلاد وتداعياتها، لاسيما في ظل غياب التوافق المنشود وتوسع دائرة المعارضة والمقاطعة الشعبية.

دفن دستور الحريات

الخبير القانوني يؤدي دور الموظف المكلف بمهمة وليس الأستاذ المساهم المفيد. وكما نصح الرئيس الأسبق، ها هو يمهد الطريق أمام الرئيس الحالي.
الخبير القانوني يؤدي دور الموظف المكلف بمهمة وليس الأستاذ المساهم المفيد. وكما نصح الرئيس الأسبق، ها هو يمهد الطريق أمام الرئيس الحالي.

مع ذلك يرى مؤيدو الطبعة الجديدة لدستور لعرابة أنها تضمنت مؤشرات إيجابية أبرزها إقرار مبدأ التصريح بدل الترخيص، لممارسة حريّة الاجتماع والتظاهر، وإنشاء الجمعيات وعدم حلّها إلا بقرار قضائي، كما أنه لا يمكن للقانون أن يتضمن أحكاما تعيق بطبيعتها حرية إنشاء الأحزاب السياسية. فضلا عن “تعزيز مركز رئيس الحكومة وتوسيع صلاحياته بدلا من اعتماد منصب الوزير الأول، وذلك بناءً على مفرزات الانتخابات النيابية، علاوة عن إلغاء حق الرئيس في التشريع بأوامر خلال العطل النيابية“.

كما أكدت على “عدم ممارسة أكثر من عهدتين رئاسيتين متتاليتين أو منفصلتين، وتحديد العهدة البرلمانية بعُهدتين فقط، وإمكانية مشاركة الجيش الجزائري في عمليات السلام بالخارج، إضافة إلى جعل مادة ترسيم الأمازيغية كلغة وطنية من المواد الصمّاء التي لا يسمح لأحدٍ تغييرها فيما بعد”.

ولأن الرجل لم يلبّ أطماع الإسلاميين وبعض المحافظين، فقد وجد نفسه في مرمى سهام موجة انتقادات لاذعة على خلفية تُهم معلّبة، حيث وصفه رئيس حزب جبهة العدالة والتنمية المعارض عبدالله جاب الله، بأنه “موال  للتيار العلماني والتأسيس لدستورٍ يعادي القيم الوطنية، وقد سجلت عنه 154 مأخذا جوهريا عن المسودة الدستورية تتعارض تعارضا صارخا مع دين الشعب الجزائري وتاريخه وتطلعاته وتهدد السيادة الوطنية“. وأضاف أن ”المشروع المقدم من لجنة لعرابة يشكل خطرا حقيقيا على دين الأمة ووحدة الشعب، وأنه يحمل تآمرا على اللغة العربية لصالح الفرنسية“.

أما رفيقه في التيار الإخواني، رئيس حركة مجتمع السلم عبدالرزاق مقري، فقد علق متسائلا ”هل بقي شيء نضيفه لمن لم يقتنع؟ رئيس لجنة إعداد مسودة الدستور يكشف علانية خطة التيار الذي يمثله، القضاء على عناصر الهوية بالتدريج”.

وأخيراً فإن طموح لعرابة إلى دستور المواطن وتحييد المسائل الخلافية للهوية يبدو مناقضاً لموروث دستور الانفتاح الديمقراطي الذي يتعمد دفنه تدريجيا، لحساب دكتاتوريات مشرعنة قطعت الطريق على آمال تكريس الحريات والانتقال الديمقراطي.

12