أحمد عدوية والناس الرايقة!

لا شيء يضيعه الدماغ البشري، إنما يخزن كل شيء مهما بدا غير مهم، يخزنه في صناديق للذاكرة يعيد كل ليلة خلال نومك ترتيبها والتأكد من جودة تخزينها، وإن لم تقتنع بأنه يفعل ذلك عليك بكتاب “لماذا ننام؟” للطبيب البريطاني ماثيو ووكر.
والدماغ عبقري جدا، فهو يربط الأشياء ببعضها عبر كلمات مفاتيح، عبر الرائحة، المكان، الحالة النفسية لصاحبه، الزمان، حتى النظرة ونبرة الصوت، لذلك تجده يستحضر ذكريات غريبة فجأة، قد تتساءل أحيانا ما الذي بعثها الآن؟
وأول عضو مجند للتسجيل والتذكر هو الأذن، خاصة وهي تستمع لأشياء بإرادتنا ورغما عنها، يكفي أن تتجول في أي بلد عربي لتستمع لأناس يتكلمون، أغان تبث هنا وهناك، قرآن، عراك، حوار بين مثقفين في مقهى، صراع بين زوجين في الشقة المجاورة. كل شيء تسجله ذاكرتك حسب أهميته ومدى تركيزك معه ثم يقوم باستعادته من مخزنه بالذاكرة طويلة المدى مما يدفعك إلى تكرار التفكير فيه تلقائيا، ويسمى علميا بـ”دودة الأذن”.
هذا ما يحصل في علاقتنا بالأغاني، كانت أول مرة أسمع فيها أغنية “الناس الرايقة” التي أعادت المطرب الشعبي المصري أحمد عدوية إلى الغناء عند صدورها حيث كانت تبثها قنوات تلفزيونية كانت تؤنسني خلال مراجعة دروس الثانوية العامة أو حتى عند ترتيب المنزل. عودة عدوية حظيت باحتفاء كبير خاصة وأنها كانت مع النجم اللبناني رامي عياش. ما يعني أن الأغنية تبث مرات عديدة خلال اليوم.
لا أذكر أنني كنت أحب الأغنية، لكنني طوال السنوات التي تليها وجدتني كلما انغمست في التواصل مع أشخاص مكتئبين أو كلما كنت سعيدة (تناقض كبير هنا) تخطر على بالي تلقائيا “الناس الرايقة”، فأجدني أردد “بحب الناس الرايقة إلي بتضحك على طول/ أما العالم المدايقة أنا لأ مليش في دول/ وبحب إلي مخليها على الله إلي ما يحسبهاش…”
لم يدفعني الفضول إلى اكتشاف هذا الفنان الشعبي ذي الصوت الخشن، ولم أهتم لأمره إلا بعد سنوات، حين غنى طفلان في برنامج “ذا فويس كيدز” أغنيته “ما بلاش اللون دا معانا”. ورغم ذلك استمعت لأشهر أغنياته فقط.
اكتشفت بعدها صوتا مصريا شعبيا له بصمته الخاصة، لا يمكن تكراره ولا ينجح أغلب من يتشبهون به. صوت اشتهر في زمن الفن الجميل، حين كان الجميع مهووسين بالعندليب عبدالحليم حافظ ومحمد رشدي وآخرين، كسر عدوية القاعدة وقدم الفن الشعبي بأسلوبه الخاص حتى لقب بأنه الأب الروحي للفن الشعبي في مصر، يمكن أن تقول إنه مثل الهادي حبوبة في تونس الذي غير في الفن الشعبي/ المزود وتأثرت به الأجيال اللاحقة من الفنانين.
وكل ما هو شعبي يلقى عادة استنكارا ورفضا من الطبقة البرجوازية والمثقفين، ثم تدريجيا يحجز له مكانا بينهم، ذلك ما يمكن أن تتأكد منه بتأمل الفن الشعبي في بلدك. ومنذ السبعينات هاجم كثيرون عدوية واستنكروا من يستمعون إليه، لكن نجيب محفوظ الذي يعتبر أعلم الأدباء بتركيبة المجتمع المصري وتفاصيله وصراعاته وانقساماته الأيديولوجية والمذهبية، منحه “شرعية” بقوله إن صوت عدوية يطربه لكونه صوتا مصريا يستخدم أساليب وكلمات شعبية وصوتا خشنا لا يخلو من حلاوة. وتتالى بعده المثقفون الذين يحبون عدوية.
لا يكفي المجال للحديث عن هذا الفنان مطولا، فهذا المقال جاء إثر تذكري صدفة لـ”الناس الرايقة”، لكن يكفي نظرة سريعة على أغنياته وكلماته لنكتشف مدى بساطتها وعمقها في آن واحد، سواء كانت أغنية تتحدى الآخر أم غزلية أم أغنية شعبية جدا قد يستغرب البعض أن يستمع إليها شباب اليوم.
تلك الشعبية هي من جعلت أغانيه تعيش من سبعينات القرن الماضي إلى اليوم وتكون ترندا على مواقع التواصل ويتسابق الشباب للرقص على أنغامها كأغنيته “الجو هادي”. تلك الشعبية والتمسك بالهوية المصرية حركا “دودة الأذن” عندي لأتعلق بـ”الناس الرايقة”.