أحمد القادري يخلد فنّ الحضرة الصوفية النسوية كتُراث لامادي مغربي

"بندير لالة" يكشف أسرار الفن وتاريخه في زوايا مدينة سلا.
الاثنين 2024/02/05
فضول ورغبة في اكتشاف الهوية

حرر المخرج المغربي الشاب أحمد القادري "بندير" (دف) جدته، المعلق في منزلهم، من جموده ليروي من خلاله قصة الحضرة الصوفية النسوية في مدينة سلا، وتاريخ الزوايا وأسرار الفنون النسوية التي كانت جدته واحدة من ممتهناتها، في فيلم وثائقي أطلق عليه عنوان "بندير لالة" الذي يحكي لـ"العرب" كواليسه ورسائله.

الرباط - تتيح الأفلام الوثائقية اكتشاف العلاقة بين الحضارة والطقوس الثقافية بالمدن العريقة، ومنها اكتشاف الروابط العميقة بين الفنون البصرية والطقوس الصوفية، مما يعزز التفاهم العالمي حول تلك التجارب الدينية والفنية الفريدة. وتلعب هذه الأفلام دورا حيويا في إبراز تفاصيل الحياة اليومية، وكذلك التراث الفني والديني كواجهة تواصل ثقافية بين الماضي والحاضر، إذ تشجع على فهم أعماق الهوية الثقافية المغربية.

في هذا السياق كان لصحيفة "العرب" حوار مع المخرج المغربي الشاب أحمد القادري حول تجربة فيلمه الوثائقي "بندير لالة" الذي توج بالجائزة الكبرى لمهرجان طنجة زووم للسينما الاجتماعية، خلال دورته العاشرة في شهر ديسمبر المنصرم.

وتنطلق فكرة فيلم "بندير لالة" للمخرج أحمد القادري، من الرغبة في إعادة منح "بندير" (الرق/ الدف) الجدة الذي ظل معلقا على جدران البيت منذ وفاتها ولسنوات طويلة، مع إمكانية استعادة وجوده في الحياة وفي جلسات الحضرة الصوفية النسوية بمدينة سلا.

ويعكسُ الفيلم العلاقة بين الفُضول واكتشاف الهوية الشخصية، ويشير القادري إلى هذا الطرح بقوله "الفُضول هو الذي قادَني إلى طرْح السؤال عن سببِ وجُود هذه الآلة الموسيقية 'البندير' مُعلّقة على الحائِط داخل مكتبة الوالد، فقد كان وجودُه غريبا بالنسبة لي، فهو جِسمٌ مختلف بين اللوحات التّشكيلية وبعض الصور الفوتوغرافية وحاجيات أخرى معرُوضة على جُدران مكتبة تعُجّ برفوف الوثائق والكتب".

"بندير لالة" للمخرج أحمد القادري توج بالجائزة الكبرى لمهرجان طنجة زووم للسينما الاجتماعية، خلال دورته العاشرة
◙ "بندير لالة" للمخرج أحمد القادري توج بالجائزة الكبرى لمهرجان طنجة زووم للسينما الاجتماعية، خلال دورته العاشرة

ويتابع "لا شكّ أنّ أجوبة الوالد الرّامية إلى تبدِيد هذا الفضُول، هي التي أنارت لي تاريخ هذا البندير والمسار الذي قطعَه إلى أن صار مُعلّقا أو مشنوقا على الجدار، فيما كان من قبل يعيشُ حياةً فنيّة وموسيقية عندما كانت سيّدتُه، أيْ جدتي على قيْد الحياة، مُشاركةً في فِرقة للحضرة النسوية بمدينة سلا المجاورة، كما هو معروف في مدينة الرباط".

وفي حديثنا عن الدور الحيوي الذي لعبه سؤال أحمد لوالده حول آلة البندير في توجيه القصة وكشف الأسرار يبين المخرج المغربي "من خِلال الحِوار الذي أجريتُه مع الوالد، فهِمتُ لماذا اختار أنْ يُعلّق هذا البندير على حائِط مكتبته، فقد أراده أنْ يكون ذِكرىً طيّبة يستحضرُ من خِلالها الدّور البارز الذي قامت به والدتُه وعددٌ آخر من النّسوة من أجل الحِفاظ على فنّ الحَضرة الصّوفية النّسوية كتُـراث لامادي. وكما تفّضلت بذلك في سُؤالك، فقد كان البنديرُ كاشفًا للأسرار والأخبار التي عاشها هذا الفنّ في مدينة سلا، والذي لا تخلُو منه المناسبات والاحتفالات الدينية والصّوفية التي تُقام في هذه المدينة العتيقة والحافلة بفُنُونها التراثية".

ويضيف "لا أبالغ إذا قلت إن البندير هو الشخصية المحورية في هذا الشريط، حيث نراه في البداية مُعلّقا على الجدار في حالة 'بطالة'، غير أنّه لاحقا يتخلّص من هذه البطالة ليستعيدَ دوره ووجوده في فضاء الزاوية بين يديْ نساء الحضرة".

استخدم المخرج أحمد القادري تجاربَ النساء لتسليط الضّوء على تطوّر الحياة والثقافة في المجتمع، حيث يؤكد "يحرصُ الفيلم على إضاءة جانب من حياة النساء في مدينة سلا، التي انتعش فنّ الحضرة في أضرحتها ومقاماتها الصوفية والدينية، بل وحتّى داخل بيوتها التقليدية، كما أنّ الشريط يكشفُ الطقوس التي ترافقُ جلساتِ الحضرة النسوية، حيث قُمت بتسجيل مشاهد حيّة من هذه الطقوس والعادات داخل فضاء الزاوية القادرية بمدينة سلا، وهو المكان الذي عاشت فيه جدّتي صاحبة البندير. وكان يحتضنُ خلال شهر صفر من كلّ سنة هجرية جلسات نسوية يتغنّين فيها بشمائل الرسول وخصاله ويتشوّقن لزيارة بيت الله الحرام والمسجد النبوي".

 ويكمل "بذلك، فإنّ العمل صوّر لحظاتٍ من حياة نساء مدينتي خلال مُمارستهن لهذا الفنّ الصوفي، إذ يعتبر إحدَى التعبيرات الفنية و الموسيقية الأصيلة التي أتاحت للنساء التعبير عن معتقداتهن الدينية ومشاعرهن الروحية".

ويضيف المخرج بخصُوص العناصر البصرية "قمتُ بتصوير بعض مشاهد الفيلم في مكتبة الوالد حيث كان يعيش البندير، ومن جِهة أخرى، في الزّاوية القادرية ضمن جلسة للحضرة النّسوية الصوفية، وكأنني أردتُ بذلك أنْ أبرزَ حالة الانتقال التي عاشتها هذه الآلة الموسيقية الشعبية، بين حالة 'البطالة' التي كانت تعيشُها وحالة الانبعاث واستعادة الحياة".

◙ فيلم "بندير لالة" يعكسُ العلاقة بين الفُضول واكتشاف الهوية الشخصية
◙ فيلم "بندير لالة" يعكسُ العلاقة بين الفُضول واكتشاف الهوية الشخصية

ويستدرك "أما من الناحية السمعية، فقد عزّزتُ الشريط بقصيدة للشاعر المغربي مراد القادري، يتحدّث فيها البندير بصوته، يحكي فيها قِصّته الحزينة وكيف أنه تعب من حالة البطالة على الجدار، ويتطلّع إلى العودة للحياة من جديد، وهو ما يظهر بوضوح في ختام الفيلم عندما تتسلّم البندير فتاةٌ صغيرة في إشارة لاستمرارية حضور الحضرة النسوية في القادم من الأيام كفنّ و تراث غير  قابل للزوال أو الاندثار".

تم إنجاز شريط "بندير لالة" ضمن الورشة الثالثة لبرنامج "سلا دوك"، وينوه المخرج بهذا المشروع مشيرا إلى أن مشروع "سلا دوك" هو برنامج تدريبي في كتابة وإخراج الأفلام الوثائقية القصيرة، يتم خلاله تدريب المشاركين والمشاركات أقل من30 سنة على جماليات وتقنيات كتابة الفيلم الوثائقي الإبداعي، في هذه الدورة "رافقنا مدربون محليون ودوليون في إنشاء أول عمل حول موضوع المدينة وسكانها، كما سعدنا باقتسام تجارب هامة في 3 مراحل: وهي تدريب على الكتابة مع محترفي الأفلام الوثائقية، ثم تطوير كتابة مشاريع الإقامة، وختاما الإخراج وما بعد الإنتاج، ولقد تلقى البرنامج 42 مشروعًا وثائقيا قصيرا حول مدينة سلا، تم اختيار 12 ضمنهم مشروع شريط بندير لالة".

وفي حديثنا عن  الصدى الطيب الذي خلّفه حضور فيلم "بندير لالة" ومشاركته في بعض المهرجانات المحلية والدولية عبر المخرج المغربي أحمد القادري عن فرحه منوها "لا يمكن لي إلا أن أكون سعيدا بالاحتفاء الذي لقيه أول شريط وثائقي لي، فعلى المستوى الوطني، حضر الفيلم في عدد من المهرجانات السينمائية في المغرب، وحظي بتنويه خاص من لجنة تحكيم الدورة 15 للمهرجان الوطني لسينما الهواة بسطات خلال شهر ديسمبر 2023 وتمّ تتويجُه في نفس الشهر بالجائزة الكبرى في مهرجان طنجة زوم".

ويضيف “أما على المستوى العربي، فقد مثّل الشريط بلدي المغرب في المسابقة الدولية للمهرجان الدولي لفيلم الهواة بقليبية بتونس، الذي نظمته الجامعة التّونسيّة للسينمائيين بدعم من وزارة الشؤون الثقافية والمركز الوطني للسينما والصورة وبالتعاون مع بلدية مدينة قليبية، وذلك من 19 إلى 26 أغسطس 2023. أما سنة 2024، فأنا فخور بكون شريط ‘بندير لالة’ حظي بالمشاركة في تظاهرتين دوليتين، الأولى بمهرجان رويال تشانس السينمائي في لوس أنجلوس الذي سيعقد في الفترة من 1 إلى 3 فبراير المقبل، والثانية في مهرجان سينيفليا فيير السينمائي الدولي في باكستان الذي تمّ تنظيمه  من 1 إلى 20 يناير الماضي". ويختم أحمد القادري حواره مع "العرب" بقوله "هناك مشروع شريط وثائقي سيرى النور قريبا بحول الله، أتمنى أن يكون حظه شبيها بحظ 'بندير لالة' أو أكثر".

13