أحفاد ابن خلدون غير مرحب بهم في بلاد جدهم

إذا لم نحم علم الاجتماع فالدور قادم على علم النفس والفلسفة والقانون.
الأحد 2024/09/22
علم الاجتماع أمام مهمة صعبة في العالم العربي

هناك اتفاق وطيد بين السلطة والعامة على محاربة كل ما يزعزع الثوابت الراسخة حتى من المعلومات الخاطئة والتفاخر الكاذب والتصورات العرقية الزائفة، وإذا مس علم مّا تلك التصورات في محاولة لنقدها ودحضها لتوفير بناء مجتمعي أفضل، فإن أصحابه يتعرضون لهجومات شرسة من السلطة والعوام قد تصل إلى الاعتداء والترهيب. وفي صدارة العلوم الملاحقة في المجتمعات العربية علم الاجتماع، رغم أن مؤسسه وللمفارقة عربي هو ابن خلدون.

مما لا يختلف عليه اثنان، أن سمة الإنسان الأجلى من بين سائر المخلوقات، تتحقق في كونه المخلوق الذي لم يبق على حاله منذ أول إطلالة له على البسيطة وإلى ما شاء الله، فيرنو لتطويع ما حوله من مقدرات زخرت بها الطبيعة؛ لما ينفعه، ويرتقي به من حال إلى حال، محاولا في كل ذلك إثبات قدرته على العيش بصورة أفضل عمّا كان عليه أسلافه السابقون، بخلاف سائر المخلوقات، فحين نستعرض سيرة أول قطيع من الدببة أو الغزلان، أو النمور، أو الأسماك، أو الطيور، حتى الكائنات المجهرية، سنجد أنها سيرة لا يختلف أولها عن آخرها.

وقصة ظهور المعارف والعلوم، لم تكن سوى جزء مكمّل لرغبة الإنسان في العيش بحسب ما يطمح إليه، بمعنى أنها كانت – وما زالت – تسعى لتحقيق سعادته، بتوفير ما يبحث عنه بأيسر الطرق، أو تقيه ما يخشى حدوثه، أو تعالج ما وقع عليه من خطر، وهذا هو الأصل في الغاية التي سعى الإنسان لتحقيقها من وراء تلكم المعارف والعلوم.

اتهام العلوم

لا ننكر وجود ممارسات غير صحيحة يمكن أن تطال العلوم بفعل أنانية بعض البشر، وانهماك – هؤلاء الـ”بعض” – في الشعور الفرداني – على مستوى الفرد أو الجماعة – الذي يدفعهم لحرف بعض العلوم عن غاياتها النافعة لعموم البشر من دون أي فرق بين قومياتهم أو لغاتهم، إلى ما ينفع تلك الجماعة/القومية، على حساب الإضرار بآخرين، وهذا ما نلمسه واقعا في علوم ومعارف – مثل علم الذرة وتخصيب اليورانيوم – صارت بيد بعض الدول وسيلة لتهديد شعوب العالم، بما يجعلها ترضخ لقراراتها، وتجهر بالولاء لها، والقبول باستغلالها من تلك الدول، أو التحالف معها – في أفضل الأحوال – لتأمن شرها، أو تخويف من ترغب بتخويفه من دول تنافسها في القوة، أو تشاركها في بعض المصالح.

بوكس

وهكذا شأن علوم ومعارف أخرى، يمكن أنْ توظفَ معطياتها في ما ينفع الناس، ويصل بهم إلى ما يرتقي بحياتهم نحو الأفضل، وتحقيق أعلى درجات الرفاهية، ويمكن أن يحصل عكس ذلك، إذ توظف معطياتها لما فيه خراب البشرية وتدميرها، أو لما يبعث على الشاذ من سلوك أو قيم.

ومن هذا المنطلق لا يمكن لنا أن نزكي علما ونجعله فوق الشبهات، فكل العلوم والمعارف قابلة للتوظيف غير الإنساني، أو استعدادها لأن تكون مؤدلجة، تحمل في طياتها ما تريده هذه الجهة – السياسية أو الثقافية – من أفكار، أو خطاب ينسجم وتوجهات هذه الجهة أو تلك، بما يسهل – عبر هذا العلم – قضاء مآربها، والترويج لدعايتها بطريقة أو بأخرى.

ضد علم الاجتماع

لعل “علم الاجتماع” يمثل أنموذجا من العلوم التي كثر اتهامها هذه الأيام، والنظر إليه وإلى ممثليه – أو من اشتهر بين الناس به – بعين الريبة والحذر تارة، أو محاولة بعضهم للإجهاز عليه، بعدم وصفه بالعلم أساسا، ممهدا بهذه المحاولة التي لا تنطلي إلا على قليلي الثقافة والاطلاع، إلى جر البساط من كل علم لا ينسجم في بعض أفكاره – وليس جميعها – مع توجهات هؤلاء الناقمين وطبيعة تفكيرهم وسلوكياتهم المجتمعية؛ لتخلو الساحة لهم، فهؤلاء لا يرون أهمية وجود هذه المعارف في حياتهم، وإن نظروا إليها، فلا ينظرون إلا بما يوافق أفكارهم وتوجهاتهم، وإن كانت طبيعة هذه المعارف تختلف في معطياتها ونتائجها أو تتضاد مع طبيعة تفكير هؤلاء الناقمين، نظروا إليها  بعين الريبة والحذر والاتهام.

يسعى مثقف هذا النمط إلى انتقاء مقولات وأفكار لبعض ممثلي هذا العلم، لا يمكن أن تكون محل اتفاق عند الجميع، بل هي لا تخرج عن كونها وجهات نظر ونظريات قامت على استقراء غير تام لشواهد، ومنها كانت تلك النظرية أو ذلك الاستنتاج، وهو سلوك – لو تقصيناه– ليس بالجديد في طريقة أصحابه لمناهضة المختلف، فكثيرة هي الشواهد على هذا التوجه، من تيارات فكرية كانت لها السطوة والدعم من السلطة أو الجمهور، تعاملت مع المختلف معها بمثل هذه الطريقة العرجاء.

يحكي لنا التاريخ كيف تعامل فقهاء المسلمين من أهل السنة “أهل الحديث” مع المتكلمين، بنزعة ارتيابية، جعلتهم مثار سخط السلطة والجمهور معا، عبر انتقادات تصيدوها عليهم، ساعين من وراء ذلك كله إلى إقصاء هذا التوجه الفكري في الثقافة الإسلامية، فقد “تغلغلت أفكار التيار المناهض للكلام في وعي عامة المسلمين، فبدأ كثير منهم ينظر بارتياب للفكر الكلامي، بل تنامت هذه الحالة، وصارت العلوم العقلية برمتها، ينظر إليها بتوجس وريبة، وأشيعَ مناخ مشبَع بالتهمة حول هذه العلوم” (علم الكلام الجديد، عبدالجبار الرفاعي ص ص 36 – 37).

وما ذكره الرفاعي عن أولئك المتطرفين في رفضهم علم الكلام قبل ألف سنة أو أكثر بوصفه جديد ذلك العصر، ينطبق على هؤلاء في موقفهم الرافض معطيات العلوم الجديدة في عصرنا هذا، ومنها “علم الاجتماع” الذي قامت عليه قيامتهم قبل غيره من علوم؛ لكونه يقوم على تقصي الظواهر الاجتماعية ورصد أسبابها، والعوامل التي تحدّ منها أو تبعثها، وهذه الظواهر قد يحرص الكثير من الناس على إخفائها أو التنزه من الاتصاف بها؛ لكونها لا ترفع شأن صاحبها أو الجماعة التي ثبت عليها مثل هذا السلوك، بقدر ما فيها من تشخيص لأدواء مجتمعية يتظاهر الكثير من أدعياء الطهارة والنقاء في مثل مجتمعاتنا بعدم الاعتراف بها، فكان لهؤلاء الناقمين، ممن يستفزهم مشرط البحث الاجتماعي وأدواته، أن يقفوا لهذا العلم ولمن يمثله من أعلام بالمرصاد، في البحث عن كل ما يمثل استفزازا لرأي الأعم الأغلب من الجمهور، من آراء أو أفكار بعيدة عن ثوابت المجتمع؛ ليضمنوا من خلالها الضربة القاضية لمتبنيات هذا العلم بصورة شاملة، وتبخيس يطال ما قدمه فلاسفة هذا العلم ومفكريه.

وعبر هذه الآلية الدفاعية لهذه الجماعة أو تلك، ممن كانت مستهدَفة في خطاب هذا الباحث الاجتماعي بالتشخيص والتحليل لما صدر عنهم أو يحسب عليهم من ظواهر اجتماعية تم رصدها، يتم الانتصار في نظر أتباع تلك الجماعة – عرقية كانت أو غير ذلك من تصنيفات تطال الجماعات – بأنهم أعلى قيمة من تشخيص هذا الباحث – نقول الباحث بوصفها أقل قيمة يمكن الاعتراف بها من قبل هذه الجماعات، وإلا فصفة العلم والعالم قد تم سحبها بجرة قلم من هذا المجال المعرفي؛ ليوافق ذلك التبخيس رضا هذه الجماعة “الحانقة” على كل ما لا يوافق متبنياتها، ويضع سلوكياتها على محك النقد – وأرفع قدرا من قول يبديه أصحاب الاختصاص في هذا المجال، وكل ما قيل ويقال – في نظر هذه الجماعة ومريديها – ليس إلا اتهامات وهرطقة وكلاما عاريا من الصحة.

وبالمحصلة لا يبقى أثر لهذا العلم ولا تأثير يأخذ مكانته في ذلك الوسط “المستهدَف” لأن القضية في نظر هذا الوسط، تبقى مجرد استهداف لهم، ضمن جملة من الاستهدافات التي تحفظها الذاكرة الجمعية لهم، ويندلق شريطها في الفضاء العام لتلك الجماعة بحسب الحاجة إلى ذلك الاستذكار؛ لأجل استثمارها في مثل هذه المواقف التي من شأنها تعكير صفو الجماعة المتماسكة بمثل هذه الظواهر.

انتقاص وتأليب العوام

◄ المجتمعات الإسلامية ممنوع فيها النقد
المجتمعات الإسلامية ممنوع فيها النقد

إذا أردنا تقريب الصورة لما تحدثنا عنه آنفا، فيمكن عبر نموذجين قريبين جدا من واقعنا العربي والإسلامي، وهما كل من الراحلَين الدكتور علي الوردي، والدكتور علي شريعتي، بوصفها – بحسب اطلاعي – الأكثر انتقادا لاذعا من قبل الناقمين عليهم إلى يوم الناس هذا، والأكثر صخبا من قرائهم سواء أكانوا متفقين مع طروحاتهما، أم كانوا معارضين لهما بالمجمل أم بجزئيات في مشروعهما البحثي، وإن كان صوت المعارضين الأكثر إثارة، والأبعد عن حدود اللياقة في تصفية الحساب مع منجزهما.

ومعلوم أن الأول تناول الظواهر الاجتماعية في المجتمع العراقي، واستعرض في كتابه المهم “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” ما تيسّر له من حالات وظواهر تعزز ما ذهب إليه من أفكار نادى بها من قبيل “الازدواجية في الشخصية”، أو “التناشز الاجتماعي”، أو “ثنائية البداوة والحضارة”، وغيرها من ظواهر اجتماعية، مفسرا أسبابها تارة، والدوافع التي رسختها في المجتمع جيلا بعد جيل تارة أخرى.

ويقف الوردي على ما يراه كفيلا من حلول لمعالجة بعض هذه الأدواء، باقتراضه نظريات لعلماء في هذا المجال، أو بملاقحته بعضها بالآخر بما يراه مناسبا وطبيعة بيئة هذا المجتمع، ومزامنتها الظرف التاريخي أو غيرها من ظروف تأخذ أثرها أو تأثيرها في تكوين الظاهرة أو تقليصها.

بوكس

أما علي شريعتي فقد كان “يرى الحل في إصلاح التركيبة الاجتماعية، ولعل تخصصه في مجال علم الاجتماع، جعل كل اهتمامه منصبا على بنية الاجتماع البشري الإسلامي، فأفكاره كلها تتمحور حول البنية الاجتماعية، ولذلك ركز على قضايا الفقر والطبقية والحريات وما شابه ذلك” (علي شريعتي في العالم العربي / الحضور والتأثير، مقال، حيدر حب الله)، وغيرها من ظواهر اجتماعية في المجتمع الإسلامي عامة والمذهبي خاصة، كانت سببا لأن يثور عليه ممثلو المذهب من رجال دين ذوي نزعة محافظة في أفكارهم وطروحاتهم.

لا يناسب رجال الدين – من نواح كثيرة – ما يشخّصه شريعتي، من أدواء، ومن معالجات من زاوية تخصصه الفكري في علم الاجتماع، فمن الطبيعي أن يشهد فكره، وفكر الوردي من قبله – وكل من يقترب من المحظور الاجتماعي – انتقادات لاذعة لا تمتّ إلى الجانب العلمي بصلة، وإنما تمتّ لاستنقاذ ما بقي لأصحاب النفوذ الاجتماعي أو الديني ممن آذاهم – أو بالأحرى آذى مصالحهم المادية أو المعنوية – من مكانة مرموقة عند أتباع ذلك الدين أو ذلك المذهب أو تلك القومية أو تلك الطبقة الاجتماعية التي تناولها بالتشريح النقدي هذا العالم أو ذلك الباحث.

وقد اختصر لنا شريعتي في أحد كتبه، على لسان ناصح مفتَرَض، قائل له “لا تصرّح بكل العوامل التي تقف وراء تعاسة المجتمع والدين. ينبغي عليك أن تراعي مصالح أصحاب النفوذ وحدود صلاحياتهم، هذه الأمور ليست صعبة عليك، كل ما تحتاجه هو قليل من النضج والنباهة، هؤلاء هم الذين أثاروا كل هذا الضجيج ضدك: وا إسلاماه.. وا إماماه. وزّعوا المنشورات ولفّقوا التهم ضدك وحرّفوا أقوالك أو نقلوها مبتورة ليؤلبوا ضدك العوام، وقد رأيتَ أنهم مستعدون لفعل أيّ شيء يحقق لهم أهدافهم ومآربهم بمجرد أنْ يشعروا بالخطر على مصالحهم وأنك تزاحمهم في مناطق نفوذهم”.

وبهذا التوضيح، يمكن القول: إن التقليل من قيمة علم على حساب آخر، أو تبخيس ما ورد فيه من أفكار ونظريات، لا تخلو من أنساق المجتمع وأورامه الفكرية، لاسيما إذا خلت من الدقة والموضوعية في الطرح والتناول، وإلا فكل المعارف والعلوم، قامت وتقوم على النقد الذاتي لمتبنيات السابقين على يد اللاحقين من الباحثين،  ولولا هذا النقد لماتت العلوم في مهدها وانطمرت في غيابة التاريخ، وحتى من ذكرناهم من أسماء، وغيرهم، لم تكن أفكارهم عند المختصين في هذا المجال، تخلو من النقد تماما، فهي أفكار بشَرية على أي حال، تقبل الخطأ في بعض جوانبها، كما تقبل الصواب في بعضها الآخر.

لذلك أقول إذا بقي الحال كما هو الآن في الانتقاص من كل علم أو مجال معرفي أخذ حيزه بين المعارف الحديثة؛ لمجرد أنه يقترب من حمى دين أو مذهب أو قومية أو طبقة اجتماعية بالتحليل والنقد، فهل سيقتصر ذلك الانتقاص على الكلام؟ أم سيواكب مثل هكذا حملات، دعوات لإلغاء أقسام علمية تخرّج منها – وما زالت – الآلاف من الطلبة مثل: قسم علم النفس أو الفلسفة أو القانون ..الخ من معارف إنسانية تمثل نتاج الفكر البشري وتمرحله من زمن إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى، وتتعشق معرفيا في بعض معطياتها ونتائجها، وبهذا لا يسود غير الفكر الأحادي الذي لا يبقي لصوت العقل الحر من باقية.

بوكس

بوكس

 

9