أجوستين بوراس شاعر اللغة الطبيعية والسخرية والدراما والفلسفة

يعكف الشاعر الإسباني أجوستين بوراس في جل قصائده في منطقة الغنائية، دون أن يتخلى عن التفكير والتأمل والمعايشة والعاطفة أيضا، ويتعامل مع العالم بتهكم غير مأساوي، قوامه السخرية التي يلجأ إليها حتى في تناوله للموضوعات الكبرى للشرط الإنساني، وهذا ما يبدو جليا في نصوصه التي ضمها كتاب “الغناء بصوت خفيض” الذي يقدم مختارات شعرية للشاعر الذي لا يمكن فهم تجربته بمعزل عن أبناء جيله وتطور الشعر الإسباني.
اختار الشاعر والمترجم أحمد يماني الشاعر والناقد الإسباني مانويل مارتينيث فوريجا لكي يكتب مقدمة مختاراته للشاعر الإسباني أجوستين بوراس، وهي المقدمة التي تستعرض مفهوم الجيل ودلالاته في المشهد الشعري في إسبانيا في القرن الماضي، وما يميز كل جيل عن الجيل التالي له، والعروض الشعرية، وذلك قبل أن يتوقف عند جيل أجوستين وموقعه وما شكله من إضافة للتجربة الشعرية الإسبانية، ثم تجربة أجوستين نفسه ومراحل تطورها وما تحمله من خصائص وسمات جمالية.
فوريجا في مقاله الذي جاء بعنوان “أجوستين بوراس الشعر ينتصر دائما” أوضح أن النقد التأويلي يعتاد على إنشاء قوائم اصطلاحية مميزة لتحديد الأنماط أو الاتجاهات أو الأشكال أو الجماليات المتعلقة بالمظاهر الأدبية المختلفة. وتميل الملخصات التعريفية هذه إلى تجميع أسماء مؤلفين حول المصطلح الأكثر عمومية وتحديدا ألا وهو مصطلح “الجيل” لمؤلفين يبدو أن لديهم سمات مشتركة، وهو ظرف غالبا ما يكون صحيحا ولكنه غير دقيق في الوقت نفسه.
ويضيف “على أي حال، فإن كل هذه الحواشي الوفيرة تمنح القارئ والباحث إمكانية تحديد قائمة اسمية، في الزمن، على الأقل، توجه البحث والمقاربة إلى السياق الذي تتكشف فيه هذه الجماليات وهذه الأشكال. في إسبانيا اتبعت هذه الممارسة عادة القاعدة التي استند إليها أورتيجا إي جاسيت، والتي رسخت فترة زمنية تمتد إلى عشر سنوات كي يظهر جيل ‘جديد’ ويتجمع حول تقارب جمالي يحل محل الجيل السابق”.
أجيال شعرية
يقول فوريجا “حسنا، إذا انتبهنا إلى هذا المبدأ، فإن بوراس سوف ينتمي إلى الجيل الذي أطلق عليه لويس أنتونيو دي بيينا ‘ما بعد بالغي الجدة’، في إشارة إلى الشعراء الذين ولدوا بين عامي 1956 و1966، ذلك الجيل اللاحق على الفور على جيل ‘بالغي الجدة’ ومعاصر لـ’جيل اللغة’. وينتمي إليه مؤلفون ولدوا بين عامي 1945 و1955″.

من الناحية الأسلوبية يعبر بوراس عن نفسه في لغة دارجة، تلجأ إلى توليف شكل الحكمة المأثور أو على العكس
ويبين أنه لا يتم تحقيق هذه المؤالفة دائما “في الواقع يتم انتهاكها بشكل متكرر”. مهما كان الأمر، فإن أسماء مثل ليوبولدو ماريا بانيرو (1948 ـ 2014) ولويس ألبرتو دي كوينكا (1950) وآنخل جيندا (1948) ومانويل باثكيث مونتالبان (1939 ـ 2003) وخابيير لوستالي (1948) وفيليكس دي آثوا (1944) وبيري جيمفيرر (1948)، من بين آخرين، تضعنا على الفور على الرغم من اختلافاتها المتناقضة أمام سياق لشعر إسباني واضح المعالم في القرن الماضي ستكون له استمرارية مثمرة في جيل “ما بعد بالغي الجدة” القادم.
ويرى فوريجا أنه ليس هذا المكان المناسب لتوضيح أوجه التشابهات والاختلافات الجمالية لهذه الأسماء المذكورة، ولكن ربما يكون المكان المناسب لملاحظة أن مقترحات شعراء جيل “ما بعد بالغي الجدة” تقدم بشكل عام خصائص وسمات أكثر تشابها من تلك الخاصة بأسلافهم المباشرين. لذلك يشارك بوراس في التيار كمصدر رئيسي للإلهام وتضمين الذات المنهكة كدليل على تجربتها الغنائية.
ومن الناحية الأسلوبية يعبر بوراس عن نفسه في لغة دارجة، تلجأ من جديد إلى توليف شكل الحكمة المأثور أو على العكس من ذلك، إلى المسارات الطويلة لشعر النثر التي تخلت بالفعل عن مفهوم النثر الإيقاعي وارتبطت بالشعر الحر، مما أدى إلى تهجين شكلي يمتد إلى اليوم في الشعر الإسباني.
ويؤكد فوريجا أن بوراس يذهب إلى أبعد من ذلك، فبالإضافة إلى الأشكال ذات المنظور الكلاسيكي، فإن الإيقاع ثماني المقطع الذي، ربما يستخدمه أكثر من أي شاعر آخر في جيله، يشكل جزءا من مورفولوجيته الشعرية.
كذلك سيتعاطى مع قصيدة الرومانس البطولية في كتابه “الذبابة البيكيرية” 2009، ومما لا شك فيه أنه لا يتبع أيضا التقليد التركيبي فحسب للغنائية الإسبانية، بل يتبع أيضا الخط الذي رسمه جوستابو أدولفو بيكر (1836 ـ 1870) وأنتونيو ماتشادو (1875 ـ 1939)، وخوان رامون خيمينيت (1881 ـ 1958) والذي تغلغل في الشعر الإسباني في القرن الماضي ووصل بشكل عملي صافيا حتى خايمي خيل دي بييدما (1929 ـ 1990).
ومن حيث الشكل، فإن بوراس هو أحد أفضل ممثلي التعبير الطبيعي عن “الكتابة كما يتحدث المرء” التي أوصى بها كاتب عصر النهضة خوان دي بالديس (1509 ـ 1541)، في كتابه “حوار اللغة” كنمط مثالي للغة الإسبانية. وثمة شاعر لا يمكن تصنيفه مثل ليون فيلليبي (1884 ـ 1986) تبناها بديهية لشعره.
لذلك، يعتبر بوراس جزءا من أكثر التقاليد الشعرية الإسبانية ذائعة الصيت، كما أنه يضيف سمة غير شائعة بين شعراء جيله ألا وهي التوظيف البلاغي للسخرية باعتبارها تباعدا عاطفيا، فبدءا من فرنثيسكو دي كيبيدو (1580 ـ 1645) نجدها قد اندرجت لدى العديد من
الكتاب الكلاسيكيين الجدد مثل فرنانديث دي موراتين (1737 ـ 1780) أو فيليكس سامانيجو (1745 ـ 1801)، لكن لم يعد لها دور قيادي حتى تمت استعادتها بشكل عابر على يد واحد من هؤلاء الشعراء الآخرين الذين يصعب تكيفهم مثل رامون إيريجوين (1942) في كتابه “سماء وشتاءات”.
أعمال شعرية

يلفت فوريجا إلى أن كتاب “ليت” (Ojalá) لأجوستين والذي نشر عام 2006 عبارة عن كتاب شبابي يجمع بين العفوية الكاملة لغريزة لا تتجلى فقط في العاطفة الداخلية التي تغزو الشاعر، وهو في طريقه إلى الخروج من الواقع، إنما هذه العفوية نفسها تتنقل إلى اللغة.
ويعالج الكتاب موضوعات متباينة، ويعرض بالفعل بعض السمات الأسلوبية المشار إليها سابقا، مثل قصائد “انظري إذا ما سوف أصبح ماسوشيا” حيث التقاء السخرية باللغة الدارجة، بالرطانة، وحيث الحب مشوب بالإثارة الجنسية في “ثلاث رسومات تقريبية 2”، والذاكرة كمرساة غنائية أو درامية في “لمرات عديدة ابتعدت”، وفقدان المحبوب ناظرا إليه من ناحية هدوء الذكرى التصالحية في قصيدة “عندما مات أخي خيسوس”، أو التمتع بالمحبوب حيا وحاملا للأمل في “حياة جديدة” حتى الالتفاف في رداء التأمل الفلسفي في “أعظم قصيدة أحتفظ بها” أو التوغل في مسائل ما وراء الطبيعة في “حوار منفرد”، كل هذا يشكل جزءا من هذا المؤلف الشعري الأول لأجوستين.

أجوستين بوراس يضيف سمة غير شائعة بين شعراء جيله ألا وهي التوظيف البلاغي للسخرية باعتبارها تباعدا عاطفيا
ويشير فوريجا إلى أن بوراس في عمله الشعري الرابع “وداع أبدي” لا يهجر اللغة الطبيعية ولا حس السخرية ولا الدعابة ولا الدراما ولا الفلسفة في أحسن معانيها. إن “وداع أبدي” هو صورة الشاعر المنعكسة في المرآة، صندوق الصور والرفوف حيث تسكن قراءاته الشعرية.
إنها أغنية إلى نفسه، لكنها في الوقت ذاته أغنية حب تجمع في تكرارها “الحاضر الدائم” الذي يتحدث عنه هنري بيرجسون والذي يعطي معنى للحياة. إنها أخيرا الشهادة العارية للشاعر الذي يسلم نفسه إلى الجزء الأكثر حميمية من العالم الذي يحتمي به، ولكن لهذا السبب بالذات هو الجزء الجمعي بشكل جذري، فالكوني يقبع دون أدنى شك في أعماق الشخصي. قال أندريه جيد “العيش، أيضا، أن تكون قد عشت”، وبوراس لن يكذب ذلك.
ويذكر أن بوراس ولد في أنتقيرة، في مالقة عام 1957، ووفقا للمترجم فإنه “منذ صغره وهو محب للشعر والرسم وقد أسس عددا معتبرا من المجلات الأدبية، له مؤلفات حول حياة وأعمال الشاعر الإسباني الإشبيلي جوستابو أدولفو بيكر. من مجموعاته الشعرية “ليت”، و”الذبابة البيكيرية”، “كوبلات إلى حياة أبي الروحي (تحية إلى آنخل جيندا)”، و”وداع أبدي”.
وأوضح يماني أن الشاعر حاصل على ليسانس في علم النفس من جامعة مدريد المستقلة وعمل أستاذا للغة الإسبانية وآدابها حتى تقاعده عام 2017.
وكان قبل ذلك قد عمل في التعليم الابتدائي ونتج عن هذه التجربة عدد من القصائد تتناول محتويات التعليم الأساسية في هذه المرحلة العمرية، وصدر بعضها في كتاب بعنوان “موفليتي الأنيق” برسومات لأرتورو جارثيا بلانكو ونشر عام 2019.
صدرت له أنطولوجيا شعرية 2009 “أربعة قطط” (أصوات أساسية في الشعر الإسباني في القرن الحادي والعشرين ولأجله)، وهي مختارات شعرية تشمل أربعة شعراء هم آنخل جيندا وخابيير سالبادو ولورنثو مارتين ديل بورجو وماريا أورتيجا. وله رواية صدرت عام 2020 بعنوان “الجريدة والخبز”.
قصيدة ثلاثة رسومات تقريبية
1
في نيتي أن أخبركم
أنه ليس ثمة قصيدة أكثر اكتمالا
من معرفتكم.
لطالما أحببت أن أتذكر
هذا الرأي
الذي أتركه الآن مكتوبا
كالنص الذي لا مفر منه
لتلك الصورة البدائية،
التي، لحسن الحظ، أحتفظ بها:
وحده الحب يتوافق مع العالم
ويجد في غموضه السبب الذي ينتجه.
2
رغم أن مجرد الوجود
في ما يخص وجودي
هو سبب كاف للغناء،
فإن الغموض الذي يلف
العالم العجيب
يسيل الكثير من الحب الذي جعلني ألتقي بك.
لن أنسى ذلك الصيف
وأنت متكئة على كتفي
وموتور قدميك يحرك القارب
الذي يفتح ويغلق ساقيه كضفدع عملاق.
نفايات البحر
توصي بالخروج منه
وكانت الأيدي حرة،
منذ ذلك الحين،
لإسعاد الجسدين
اللذين يصلان إلى الشاطئ.
كنت مستلقية على ظهرك.
كان القميص على رأسك يمنع عني
عالم عينيك كله.
أذكر أنه عندما قبلتك
كان بعض الماء متبقيا في سرّتك الصغيرة
وكلمتني بأصابعك،
راسمة قلبا في ملح خصري.
الحياة بالنسبة لي،
أن أستمر بأمل
إعادة العناق إليك
إلى معجزة كالتي لك.
ليت يدي تجيبان
من الآن فصاعدا
على الحب الذي تمثلينه،
والإله الدائم الذي يسافر معك
أن يجدني قريبا بجانبك.
3
أرى في العالم قلبا هو صورتنا الحية.
ليس لديه صورة نهائية
(لأنه يتغذى علينا)
وليس ثمة عوائق كبيرة
لجعله صالحا للسكنى برحابة.
إنها مسألة صبر وأمل.