"أجمع الذكريات كي أموت" أنطولوجيا كاشفة للمشهد الشعري البرتغالي

إسكندر حبش يبحر في الشعر البرتغالي وتفاعلاته مع الواقع ما بعد فرناندو بيسوا.
الاثنين 2025/04/28
"فرناندو بيسوا يقرأ مجلة أورفييو" (لوحة خوسيه دي ألمادا نيغرييروس)

استوعب الشعر البرتغالي تيارات الحداثة وما بعد الحداثة العالمية، مما أدى إلى تنوع أساليبه ورؤاه، وأسئلته عن المعنى، الزمن، الموت، الوحدة، العلاقة بالإنسانية والعالم، الأمر الذي عمق الرؤية الوجودية والفلسفية في نصوصه ليظل القلق الوجودي حاضرا بقوة، كموضوع مهم، ينفتح على التأمل في الذات والواقع واستكشاف العلاقة بين الذات الداخلية والواقع الخارجي، دون إغفال أو تجاهل التفاعل مع التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها البرتغال والعالم.

في الأنطولوجيا التي حملت عنوان "أجمع الذكريات كي أموت" وضمت 32 شاعرا، اختار الشاعر والمترجم إسكندر حبش أن يضيء بنصوصهم المشهد الشعري البرتغالي، وهي تؤكد أن الشعر البرتغالي ما بعد فرناندو بيسوا واصل تنوعه الأسلوبي والموضوعاتي، واستمر في حوار إرث بيسوا مع السعي لتجاوزه والإضافة إلى جمالياته، واستكشاف أعماق الذات والوجود.

في مقدمته للأنطولوجيا الصادرة عن دار طوى للثقافة والنشر، والتي عنونها بـ”ما بعد بيسوا” يضيء حبش المشهد الشعري البرتغالي في مرحلة ما بعد بيسوا الذي شكلت تجربته مرحلة الحداثة الشعرية في البرتغال، يقول “كانت بداية هذه المختارات الشعرية أو لنقل كان الهدف الأساسي منها تقديم لمحة عن جيل من الشعراء البرتغاليين، خرج من ظل وتأثير ‘كوكب’ فرناندو بيسوا، الشاعر الذي وسم بمفرده ـ (بالطبع مع “بدلائه” وأقصد هنا الشعراء الذين اخترعهم وكتب بأسمائهم، أي بغير اسمه) ـ الحداثة الشعرية البرتغالية في القسم الأكبر من القرن العشرين، إذ لفترة طويلة بقي اسم فرناندو بيسوا، الاسم الأكثر حضورا في خارطة الشعر البرتغالي، حتى لنجد وكأنه أخفى كل الذين جاؤوا من بعده، على الأقل هذا ما يتراءى لناظر الشعر البرتغالي من الخارج. إلا أن بيسوا ليس الشاعر البرتغالي الوحيد، بطبيعة الحال على الرغم من المكانة العظيمة التي يحتلها، (وعلى الرغم من إعجابي الشخصي به)، لأن البرتغال بلد شعري بامتياز، أي لم يصبح الشعر فيه “متسولا وبائسا” (على قول الكاتب والناقد الفرنسي روبير بريشون، أحد أكبر الأخصائيين بعالم بيسوا)، صحيح أن الرواية تباع هناك اليوم أكثر من المجموعات الشعرية، إلا أن ثمة حقيقة يتحدث عنها النقاد والصحافيون: “لا تزال البرتغال بلد الشعراء”.

أنطولوجيا للشاعر والمترجم إسكندر حبش تؤكد أن الشعر البرتغالي ما بعد فرناندو بيسوا واصل تنوعه الأسلوبي والموضوعاتي
أنطولوجيا للشاعر والمترجم إسكندر حبش تؤكد أن الشعر البرتغالي ما بعد فرناندو بيسوا واصل تنوعه الأسلوبي والموضوعاتي

ويذكر مثالا على ذلك: “أي دار للنشر، متوسطة، تصدر سنويا ما يقارب الستين كتابا، منها ثلاثون ديوانا شعريا، يتراوح عدد نسخها ما بين 2000 و3000 نسخة، تباع كلها في غضون أسابيع قليلة من دون أن يشكل هذا الأمر أي أعجوبة، حتى لو كان الديوان أول كتاب ينشره مؤلفه، مثلما حدث مع آنا لويزا آمارال (مواليد العام 1956 وهي أستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة بورتو). وهناك اليوم العديد من الشعراء الشبان الذين أصبحوا معروفين ومقروئين بعيدا عن الحلقات الضيقة. لنذكر مثلا أسماء جوزيه تولينتيو مندوسا (ولد في ماير العام 1963 وهو كاهن) حيث إن شعره يرتبط بالوجود والواقع كما اللامرئي، وباولو تيكسيرا (ولد في موزامبيق العام 1962 ويعمل أستاذا لمادة الجغرافيا) وهو شاعر ذو نظرة وعبارة غريزيتين، كما هناك أيضا فرناندو بينتو دو آمارال (ولد في لشبونة العام 1960)، شاعر الوحي الغنائي الكئيب والنقد المضيء”.

ويضيف حبش “ثمة إشارة أخرى جيدة على الوضع الشعري البرتغالي: في العام 1999، على سبيل المثال، وخلال أزمة تيمور التي أثارت في البرتغال عاصفة هائلة، نشرت صحيفة ‘دياريو دو نوتيسياس’، قصيدة كل يوم، اختطلت فيها التواقيع الكبيرة مع التواقيع المجهولة. من هنا قال البعض لو أن اللجنة الملكية السويدية اختارت شاعرا بدلا من الروائي جوزيه ساراماغو لمنحه جائزة نوبل للآداب، لكانت عبرت مقدما عن احترام عليم وفهم للواقع الثقافي الوطني البرتغالي، إذ في رأي النسبة الأكبر من النقاد والكتاب والمثقفين البرتغاليين، هناك على الأقل أربعة شعراء كانوا يستحقون هذه التحية الأدبية من مثل صوفيا دوميللو براينر، يوجينيو دي أندراد، أنطونيو راموش روسا، وبخاصة هيربيرتو هيلدر الذي يعتبر عميد الشعراء البرتغاليين. إذ يعتقد الجميع أن الاختيار هذا ما كان ليثير أي نزاع كالذي حصل بين محبي ساراماغو وبين محبي أنونيو لوبو أنطونيش”.

ويلفت إلى أن الكاتب والناقد البرتغالي هيرمينيو مونتيرو يرى أن “البرتغال تعيش عصرا شعريا ذهبيا جديدا مليئا بالأسماء الجديدة التي تفرض حضورها على الساحة الأدبية”، بينما يرى آخرون أن “من الصعب الجزم بذلك، من دون تقادم الزمن، إذ علينا أن ننتظر لنتحقق من ذلك”. لكنه يؤكد أنه و”على الرغم من هذا، فإن ثمة حقيقة يتفق عليها الجميع: تعيش البرتغال اليوم، تنوعا شعريا مدهشا، أضف إلى ذلك أن هذا التنوع يشير إلى حرية التعبير، إلى الحاجة إلى التعبير، حيث لم تتمكن أي قوة سياسية من أن تعيقه وتمنعه. إذ بعد أكثر من أربعة عقود من ‘ثورة القرنفل’ نجد أن دروب الغنائية الوجدانية كما التيارات الجديدة لما بعد الحداثة، مفتوحة على أقصاها. ربما، وعلى رأي قول النقاد، هذا لا يزال هناك سوى مانويل أليغريه (ولد العام 1936 وهو عضو في الحزب الاشتراكي) الذي لا يزال يحمل شعلة القصيدة الجماهيرية والنضالية”.

البرتغال تعيش اليوم تنوعا شعريا يشير إلى حرية التعبير حيث لم تتمكن أي قوة سياسية من منعها

ويرى حبش أنه إزاء ذلك، “ثمة سؤال عميق يطرحه النقاد على الشعر البرتغالي: هل استطاع هذا الشعر التخلص من عقدة فرناندو بيسوا؟ لا تبدو الاجابة سهلة. فقد عرف شاعر البرتغال الكبير كيف يصوغ قارته الشعرية وخارطته التي جعلت الجميع يسيرون على دروبها. لا ينكر أحد اليوم حضور ذلك الرجل ‘الغرائبي’ وحضور شخصياته المتعددة (شعرائه المتعددين) في المناخ الشعري البرتغالي. لقد استمرت تأثيراته فترة طويلة من الزمن. لكن ذلك لا يلغي أن العديد من الشعراء حاولوا الخروج من سطوته، فعلى قول مانويل غوسمان (كاتب ومترجم من مواليد 1945)”.

ويوضح أن “شعراء مثل جورجي دوسينا وكارلوس دو أوليفييرا ومن ثم يوجينيو دو أندراد وصوفيا دوميللو براينر، واجهوا حضوره واستطاعوا مثله تحرير الشعر البرتغالي مما ورثناه في النتيجة. من هنا، لم يعد تمثال بيسوا يسحق المنظر الشعري، فهذا الذي كان مشكلة حقيقية للجيل الذي ولد في منتصف الثلاثينات (مثل بيدرو تامين) قد توقف عن الاستيلاء على أرواح من رغب في الكتابة بعده. لذلك نجد اليوم أن الأجيال الشعرية تتجاوزه، لقد بات مثل التيارات الكتابية المختلفة التي تتجاور من دون أن يلغي الواحد منها الآخر. وكل ذلك في مناخ برتغالي يعشق الشعر ويقرأه”.

ويتساءل حبش “لماذا تعشق البرتغال الشعر؟ ويقول إن إدواردو برادو كويليو يجد أن الأهمية المعطاة للشعر، على علاقة مع ظواهر أخرى، تجيء لتشد من حضوره، هناك أولا هذه الثقافة المتمركزة على موضوعة ‘السوداد’ التي تبدو بمثابة النوستالجيا غير القابلة للشفاء. إنها نوستالجيا لا لما حصل بل أيضا لما سيحدث في المستقبل، وذلك ضمن سيرورة معقدة للأزمنة التي تنتج. إن السوداد هذا، الذي يملك البرتغاليون سره وحدهم، شكل مكانا متخيلا، يتشبث به الشعر البرتغالي. (السوداد كلمة برتغالية غير موجودة في أي لغة أخرى، وحيث لا نعثر أيضا على أي مرادف لها، وتعني الحزن المليء بالنوستالجيا الذي يدفع إلى نوع من الفرح.. وربما من هنا قد نستطيع أن نترجمها، بالسويداء، التي عرفتها ثقافتنا العربية)”.

تمثال فرناندو بيسوا في لشبونة
تمثال فرناندو بيسوا في لشبونة

ويتابع “ثانيا هناك غياب لكل فكر فلسفي ذي اتساع شاسع مما يستطيع أن يعزز الفرضية التالية: إن الأساسي في الفكر البرتغالي وفي الفلسفة قد ظهر في القصائد الشعرية، مثلما أكدت ذلك قصائد تيكسييرا دو باسكواش وفرناندو بيسوا وفيتورينو نيميزو وغيرها”.

وحول بداية مشروع هذه الأنطولوجيا يشير حبش “كانت الغاية منه في البداية ترجمة بعض الأسماء وتقديمها وتقديم عالمها الشعري لأنشره في صحيفة السفير، إلا أن الأمر تخطى ذلك بكثير، لأجد نفسي أمام محيط من الأسماء التي تحتل مواقع متفردة، على الرغم من أن غالبيتها، تبقى مجهولة بالنسبة إلى الشريحة الأوسع من القراء العرب، إذ لم تعرف مكتبتنا العربية، ترجمات كثيرة عن الأدب البرتغالي، وبخاصة عن الشعر هناك، ما عدا ذلك الاسم الكبير الذي شكل عالما بمفرده، قصدت بيسوا بالطبع. هذه المحاولة الأولى إذا، تبعتها محاولات أخرى، لكن الذي نشر منها على صفحات السفير ـ وفي فترات مختلفة وغير منتظمة ـ لا تشكل إلا الجزء اليسير مما رغبت فيه، أي تقديم تلك الجدارية متعددة الأبعاد”.

ويشرح “من هنا بدأت فكرة هذه المختارات تتشكل وحدها، أي بدأت العمل في تحديد إطار لمشروع، أردت منه أن يتخطى حدود الثقافة اليومية، بمعنى خروجه من على صحفات الجرائد، ليدخل في كتاب متكامل. هل أستطيع فعلا ادعاء أنه كتاب متكامل. بالتأكيد لا. إذ إن ثمة أسماء عديدة، لا نجدها في هذا الكتاب، تبعا لظروف متعددة: صعوبة ترجمة بعض الشعراء، وبخاصة أؤلئك الذين أفردوا مساحة كبيرة في قصائدهم للهم اللغوي البحت، كما بعض القصائد التي تعتمد على ‘البرفورمانس’، أي تلك القصائد التي تقدم على خلفية موسيقية أو مشهدية مسرحية، بمعنى أنها ترتبط بفن آخر، يحتل فيها الحيز الصوتي مكانة كبيرة، قد لا تجد لذلك أي معادل له في اللغة العربية. ومع ذلك فإن هذه المختارات هي نتيجة قراءة وترجمة لأكثر من أنطولوجيا للشعر البرتغالي، وأكثر من مجلة شعرية برتغالية. وقد حاولت أن تكون هذه المختارات لوحة بانورامية، بقدر المستطاع، من دون تغييب أسماء حتى ولو لم أجد فيها ذلك الأمر الذي يدفعني إلى التوقف أمامه كثيرا”.

نماذج قصائد برتغالية:

ميغيل تورغا

قصيدة حرب أهلية

أناضل ضد نفسي.

ليس لي أي عدو آخر.

ما أفكر به؛

ما أحس به،

ما أقوله

يطالب بالعقاب

ويقطع الرمح في يدي.

اتحاد غريب

بين الطفل

والراشد

ما أنا عليه شتيمة

للذي لسته؛

وأصارع هذا الشكل

الذي استثمرني بخيانة.

بائس أنا، بجنونه أم بدونه،

أطالب الحياة بحياة أخرى، بمغامرة أخرى،

بمصير غامض.

لا أسير في هذه الحياة كمنتصر

ولا كمهزوم.

أعتدي على الرجل، على الطفل، اللذين فيّ.

كارلوس دو أوليفييرا

قصيدة شواطئ

تنام، تطفو في شبه مستنقع. تنفّس النهدين يدفع إلى جدران الغرفة، وبأمواج متقطعة، جسدي المخنوق. لا أنجح في النوم.

سأنتظر الليل بأكمله على شواطئ الكلس هذه، القاحلة، العمودية.

ناتاليا كورييا

قصيدة إن رحلت

دعها تركض

في أروقة جسدك السرية

شعر رغباتك المسببة للدوار

هو وحده يعرف القدر

الذي خبأته المحجبة الروح بضباب معيب

والذي لا يجرؤ على اكتشافه.

تبحث يداي عن بعضها البعض فوق جسدك

كي تلتقط شكلك الأكمل

إن رحلت، سأحتفظ بثوب

عريك المتكامل.

نونو جوديسي

قصيدة أسئلة إلى صديقة ميتة

أسأل ماذا تريدين:

الوردة التي لم تتفتح تحت شمس نيسان؟

كفن أبيض في قلب الأرض؟

نهدا الشابة الناريان في الصباح؟

أصابع العشاق التي من دون أثر؟

يمكن للوردة أن تتفتح

في أي مكان: ويمكن للكفن

أن يتلون بالأشجار التي تغطيه؛

والحب يشعل الصدر الذي يهب نفسه

له؛ واليدان تخبئان

أغطية الصبيحة المضيئة.

فقط، لا يمكن لك أن تجيبي.

الحياة مضت من عينيك مثل

ظل طير مهاجر،

مجمدا شفتيك مثل مياه

الآبار. ما من انعكاس قطف

رغبته في البقاء وكأنه كان

يعرف أنه عديم الفائدة.

ثمة نور من رماد ينزعني

من ذاكرتك.

 

12