أثرياء الساحل الشرير يستفزون البسطاء في مصر

ظاهرة مجتمعية تطفو على السطح في الصيف وتحتاج إلى عدالة حكومية.
الأحد 2023/07/09
الغبن المجتمعي يؤدي للخروج عن القانون

مع كل صيف يتردد الجدل بأكثر حدة حول سكان الساحل من الفئات الميسورة التي تتسم حياتها بالبذخ وسلوكها بالتحرر في مواجهة محيط يغلب عليه الفقر من جهة، والمحافظة السلوكية من جهة ثانية. وهذا التناقض في المستوى المعيشي والسلوكي يؤدي إلى تنافر وتصادم أحيانا في وقت لا تريد فيه الدولة إغضاب هذا أو ذاك.

القاهرة- تجاوز الساحل الشمالي الواقع على البحر المتوسط في مصر كونه منتجعا لقضاء فترة المصيف، وتحوّل إلى مادة خصبة للاستقطاب والشد والجذب بين شرائح مجتمعية متباينة، جراء حالة البذخ التي يظهر عليها البعض من سكانه ورواده، مقابل حياة بائسة تعيشها فئة عريضة من البسطاء ومتوسطي الدخل.

انشغل المصريون الأيام الماضية بمعركة نشبت بالأيدي بين شباب من قاطني أحد المنتجعات في الساحل الشمالي، وتم تحطيم المقاعد والطاولات وتعرض البعض لإصابات بسبب خلاف وقع بين شباب من أعمار مختلفة، وتحوّلت الواقعة إلى قضية رأي عام، لم تعلّق عليها الحكومة بالسلب أو الإيجاب.

التزمت الجهات الأمنية الصمت حيال المشاجرة، على الرغم من أنها موثقة بالصوت والصورة، ومعلوم أطرافها وشاهدها المتصفحون في منصات التواصل، لكن البعض ربط بين النفوذ الاجتماعي للشباب الذين ظهروا في مقاطع الفيديو وبين التجاهل.

أحدث الصمت الرسمي وغياب إجراءات العدالة عند الخروج عن القانون داخل المجتمع غضبا واسعا بين فئات عديدة، دفع البعض للاعتقاد أن العرف السائد أن يكون الحصول على الحق بعيدا عن القانون إذا استمر مغمضا عينيه.

وبرر غاضبون من انفلات بعض السلوكيات في المنتجعات السياحية بأن الأجهزة المسؤولة تتحرك سريعا للسيطرة على أيّ انفلات يقع في بيئة بسيطة وضبط المتورطين، وذلك لا يحدث دائما مع أصحاب النفوذ في المنتجعات السياحية.

الساحل الشرير

◙ زيادة الشعور بأن هناك شريحة معينة هي من تستأثر بالمال والرفاهية والسعادة والشواطئ الرائقة وترفض الاحتكاك بباقي الفئات تقود إلى استقطاب مجتمعي
زيادة الشعور بأن هناك شريحة معينة هي من تستأثر بالمال والرفاهية والسعادة والشواطئ الرائقة وترفض الاحتكاك بباقي الفئات تقود إلى استقطاب مجتمعي

يبدو هذا الشعور مبالغا فيه، لاسيما أن ضابطا في الجيش اتهم بقتل صيدلانية دهسا بسيارته من سكان منتجع سكني راقٍ في شرق القاهرة أحيل إلى محاكمة عسكرية عاجلة وقد يواجه الإعدام أو السجن المؤبد، لكن المعضلة في تضخيم شبكات التواصل من أيّ حدث مرتبط بطبقة الأغنياء.

باتت الحكومة في موقف بالغ الحرج، كونها تغض الطرف عمّا يحدث في القرى السياحية بالساحل الشمالي، كأنها لا ترغب في الصدام مع السكان هناك، ثم ترى نفسها في مواجهة أخرى مع بسطاء يشتكون مُرّ الحياة اليومية وصعوبات المعيشة.

تثار بين الحين والآخر سجالات مجتمعية بسبب الساحل، ويطلق عليه البعض “الساحل الشرير” في إشارة للغنى الفاحش وعدم المحاسبة، ومنع المحجبات من نزول البحر أو حمامات السباحة مثل باقي أبناء الأسر المتحررة، والتصرفات المجتمعية الغريبة.

وساهمت منصات التواصل الاجتماعي من خلال رصدها لما يحدث هناك في زيادة الاستقطاب المجتمعي والضغط على الحكومة لتحديد موقفها، هل تعرف ما يجري هناك من سلبيات وتصمت أم ترغب في تجنيب نفسها الحرج أم أنها استسلمت للأمر الواقع وشعورها بأنها عاجزة عن التصرف بحكمة؟

تحفل وسائل الإعلام المحلية بالعديد من القصص والحكايات المثيرة حول ما يحدث في ساحل مصر الشمالي، وتستثمر في التحفز الواضح ضد الطبقة المخملية التي تقيم في قرى سياحية ممتدة من الإسكندرية شرقا إلى السلوم غربا، قرب الحدود مع ليبيا.

ما يثير استفزاز البعض أن جماعة ثرية جدا تكاد تحتكر الساحل وتغلق الأبواب عليها، وتحرم البسطاء ومتوسطي الدخل من الاقتراب منه، وتقدم نفسها للأغلبية السكانية بصورة أقرب إلى استعراض القوة والنفوذ، ما يجلب ضدها مشاعر غضب مجتمعي.

أصبح مجتمع الساحل أقرب إلى كيان شبه مستقل يلتقي فيه سكان قمة الهرم بأولوياتهم الترفيهية وملابسهم الغريبة أحيانا، وأسلوب حياتهم الذي يرفع دائما راية الانسلاخ عن واقع تعاني قطاعات كبيرة فيه من أزمات اقتصادية طاحنة.

يُنظر إلى مظاهر الاحتفالات التي يتم تنظيمها على أنها مثيرة لاستفزاز الكثيرين في ترويج غير مبرر للبذخ يوحي بالثراء المبالغ فيه دون مراعاة لظروف الأغلبية المجتمعية، حيث يتباهى المشاركون في الحفلات بارتفاع ثمن تذاكر حفلاته، ولا يمانعون حضورها بملابس البحر.

مع كل صوة أو فيديو يتم بثه على شبكات التواصل تنهال التعليقات الغاضبة من الأغلبية البسيطة لتقارن بين فئة لا تشغلها الأزمات الاقتصادية، وأخرى بائسة تنتظر مساعدات الدولة للحد من بطش الغلاء.

مجتمعان متباعدان

◙ الساحل الشرير
الساحل الشرير

يستقبل محمود السيد، وهو رب أسرة لثلاثة أبناء، ما يثار كل فترة عن سكان الساحل الشمالي بحالة غضب لا يستطيع إنكارها، “ليست غيرة ولا حقدا طبقيا، لكن عندما تكون الأغلبية لا تستطيع العيش بصورة آدمية، وهناك من يشتري زجاجة المياه بـ200 جنيه (نحو ستة دولارات) فهذا قمة الاستفزاز”.

كان تعليق السيد لـ”العرب” مرتبطا بشكوى بعض سكان الساحل، عبر تقنية البث المباشر على منصات التواصل، من المغالاة في أسعار الخدمات، حيث تصل زجاجة المياه الصغيرة إلى 200 جنيه بينما سعرها الحقيقي خمسة جنيهات، وارتفاع أسعار وجبات المطاعم لأرقام فلكية، وهناك من يطالبون الحكومة بالتدخل لحمايتهم من الجشع كي يستمتعوا بفترة المصيف بأريحية.

كثيرا ما يتعرض السيد لأسئلة من أولاده حول السبب الذي لم يجعله غنيا مثل عائلات الساحل، لكنه لا يستطيع الرد بإجابات منطقية، ويتساءل: كيف استمر ثراء هذه الطبقة، مع أن الدولة تعيش أزمة اقتصادية طاحنة؟

مثل شريحة كبيرة من المواطنين في الشارع، لا يزال رب الأسرة يقنع نفسه بأن الحكومة خلقت أكثر من مجتمع في بلد واحد بسبب صمتها على الفساد المالي، والسماح بالثراء الفاحش دون أن تسأل هؤلاء عن مصادر أموالهم، مع أن بعضهم قد يكون لصا أو تربّح بشكل غير مشروع.

بلغ التحفز المجتمعي ضد مظاهر الترف حد المطالبة بتدخل الحكومة للبحث في الخلفيات المالية للمقيمين بلا اكتراث بأن القدرة المالية ليست بالضرورة أن تكون مرتبطة بفساد مالي، وأن التفاوت بين الطبقات أمر منطقي في أيّ دولة.

المال والرفاهية والسعادة

قال سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأميركية في القاهرة إن زيادة الشعور بأن هناك شريحة معينة هي من تستأثر بالمال والرفاهية والسعادة والشواطئ الرائقة وترفض الاحتكاك بباقي الفئات قد تقود إلى استقطاب مجتمعي، وغالبا ما يتم توجيه الغضب إلى الحكومة ولو كانت بريئة من كل ما يحدث.

◙ الحكومة متهمة من قبل الجماعة الفقيرة المكافحة للخروج من زحمة العشوائيات بالعمل لخدمة مصالح سكان مصر الأخرى التي تعيش في الساحل حياة رغدة

وأضاف لـ”العرب” أن اتساع دائرة الفقر جراء الظروف الاقتصادية الصعبة وإخفاق الحكومة في تطبيق العدالة الاجتماعية وتجاهل القانون تسبّب في وجود حالة من الاستفزاز ضد الثراء المبالغ فيه بمنطقة الساحل، وعلى هؤلاء مراعاة شعور البسطاء ومتوسطي الدخل والكف عن التباهي بطريقة تثير البعض.

ولفت إلى أنه عندما يكون مستحيلا على الفئة الأكبر أن تقترب من الساحل الشمالي أو تعيش فيه يوما واحدا، من الطبيعي أن يشعر البعض بغضب وقهر على ظروفه المعيشية، لكن المعضلة مرتبطة بالتباهي المجتمعي بالثراء وسط أوضاع بائسة.

لم يفكر مصطفى محمد، والذي يعمل معلما بإحدى المدارس الحكومية، أن يغامر ويذهب إلى أيّ من قرى الساحل الشمالي، كونه على يقين من الشعور بالغربة وسط هذه الجماعة الثرية، معقبا “لا تربيتي ولا ظروفي ولا قناعاتي تسمح لي بذلك، وأفضّل أن أستمر مواطنا طبيعيا وأظل منتميا لمجتمعي الأصلي”.

أكثر ما يستفز محمد، خلال حديثه مع “العرب”، هذه التصرفات التي يقوم بها بعض سكان قرى الساحل، وكأنهم يرغبون في الاستقلال عن مجتمعهم الأصلي بالعيش حياة أوروبية من حيث مستوى الملابس والحفلات الصاخبة والتحرر المطلق، والتباهي، بما يثير غيرة المراهقين والشباب البسطاء.

وصار نشاط الساحل الشمالي محصورا في الحفلات الغنائية والموسيقية تقريبا، وهو واقع لا يستهوي الكثير من المواطنين ولو كانوا يمتلكون القدرة المالية على الإقامة هناك خلال فترة الصيف، في مؤشر يعكس الخلل والتفاوت الذي أصاب المجتمع.

وزاد الإقبال على الساحل مع تشييد الحكومة مجموعة كبيرة من الطرق والجسور التي تربط القاهرة بالقرى السياحية ومدينة العلمين الجديدة التي أصبحت مقرا للحكم في فترة الصيف وتم توفير الإمكانيات اللوجستية لها، وبدت الحكومة قريبة من الأغنياء.

وأدى الربط بين اقتراب مقرات الحكم من الساحل الشمالي إلى جعل السلطة متهمة بأنها تشارك في تصوير مصر على أنها دولة منقسمة بين مجتمع يكافح الفقر والعشوائيات ويمثل عبئا عليها، وآخر لا ترى سلبياته وتذهب للاستقرار بجواره.

وتتهم الحكومة من قبل الجماعة الفقيرة المكافحة للخروج من زحمة العشوائيات بالعمل لخدمة مصالح سكان مصر الأخرى التي تعيش في الساحل حياة رغدة وكأن الرقابة الرسمية غائبة ولا يتم التعامل بشكل عادل على مستوى الخدمات والحقوق والواجبات.

لم تكن هذه الحالة موجودة عندما تم إنشاء منتجعات على ساحل البحر المتوسط بمصر في حقبة الثمانينات من القرن الماضي، فمن كانوا أثرياء بقوا على حالهم وزاد عليهم ما يسمى بالأثرياء الجدد، مقابل انسحاب متوسطي الدخل إلى طبقة أدنى.

خلق الشعور بالازدواجية حالة احتقان جراء الشعور بأن ثمة تفرقة في تطبيق المعايير، ففي الوقت الذي تعاني منه الفئات الفقيرة من أزمات بسبب تراكم ارتفاع الحصيلة الضريبية المفروضة عليها بالتزامن مع ارتفاع الأسعار وصعوبات المعيشة، ولا يطبق ذلك بصورة تصاعدية مع سكان مصر الأخرى التي تعيش في “غيتو” مرفه.

التصنيف الطبقي

◙ استئثار ﺑﺎﻟﻤﺎل واﻟﺮﻓﺎﻫﻴﺔ
 استئثار بالمال والرفاهية

يصعب فصل الاستقطاب الذي يصنعه مجتمع الساحل على فترات متقاربة عن وجود شعور بأن هناك طبقة ترغب في الانفصال عن المجتمع، وبلغت جهود الحفاظ على سكان الساحل حد إخضاع راغبي شراء الوحدات السكنية إلى كشف هيئة واستعلام أسري ومقابلة شخصية لتقييم نوعية المالك وتحديد ما إذا كان يصلح للسكن أم لا.

وهناك دوائر قريبة من الحكومة على دراية بما يجري من تمييز ضد الشريحة السكانية التي يلتزم أفرادها بالتقاليد، لأن جمهور الساحل لديه طقوس وأعراف خاصة ولا يسمح غالبيته بالاحتكاك مع فئات أخرى، ومع ذلك لا يتم التدخل الرسمي أو إلزام القرى السياحية بقبول أيّ مواطن طالما لديه القدرة المالية بعيدا عن التمييز.

ورفض طلب أسرة أميمة محمود، وهي زوجة منتقبة، عندما تقدمت لإحدى القرى السياحية الشهيرة في الساحل لشراء شاليه، بدعوى أنه لا إقامة للمنقبات وأحيانا المحجبات داخل القرية، وعندما استفسرت عن الأمر تم إبلاغها بأن ذلك “يثير إزعاج الملاّك، ويتعارض مع سياسة القرية في التحرر من القيود، وعدم وجود عناصر تتدخل في فرض الوصاية على المصيفين”.

◙ منصات التواصل الاجتماعي ساهمت من خلال رصدها لما يحدث هناك في زيادة الاستقطاب المجتمعي والضغط على الحكومة لتحديد موقفها

وقالت أميمة لـ”العرب” إن زوجها كان مستعدا لسداد ثمن الشاليه دون تقسيط، وعلم من أحد العاملين في القرية السياحية بأن كثرة مشاكل المحجبات والمتدينين تثير أزمة للسكان، لذلك يتم إجراء تحريات على من يرغبون في التملك، بحيث يكونون متحررين فكريا ولا يتدخلون في مسألة الأخلاقيات أو الانزعاج من المجتمع غير التقليدي.

وفي كل عام تتأجج الخلافات المجتمعية، ويتصاعد السجال بين المصريين بسبب منطقة الساحل، فهناك من يهاجم ما يحدث من استقلال مطلق، وآخرون يدافعون عن حق الملكية والحياة الخاصة ورفض الوصاية الأخلاقية، وعدم التدخل في فرض الأعراف على حياة الناس، وفريق ثالث يرى أن ما يحدث في الساحل يخدم مصر اقتصاديا.

وأكد الباحث الاجتماعي سعيد صادق لـ”العرب” أن تطبيق العدالة في مصر المدخل الأهم للسعادة بين كل الفئات، ودونها يتحول المجتمع إلى جزر منعزلة في الطموح والأحلام والنظرة إلى الآخر، ما يوسّع الفجوة بين البسطاء والأغنياء والحكومة، ويصعب فصل ذلك عن كون مصر مجتمعا كبيرا لا أحد يستطيع التنبؤ بتوجهاته.

ويرى الكثيرون في مصر أنه من حق الأثرياء أن يعيشوا سعداء وعدم النظر إليهم بشكل يثير الحقد والضغينة، شريطة تطبيق مفهوم السعادة العادلة وعدم غلق الشواطئ وأماكن الترفيه على فئات بعينها لمجرد أنها مقتدرة ماديا وتحريمها على باقي الفئات.

وتملك مصر شواطئ ممتدة على البحر الأحمر تخلو من الظاهرة التي تطفو على السطح كل صيف في الساحل الشمالي، وهناك قرى سياحية عامة تضم مصريين من مختلف الطبقات دون تفرقة أو تمييز مجتمعي ويطلق عليها الساحل الطيب، لكن أدت الملكية الخاصة الواسعة في الساحل الشمالي إلى مشكلة حقيقية باتت في حاجة إلى معالجة قبل أن تنتشر ظاهرة الساحل الشرير.

◙ الساحل الشمالي تحوّل إلى مادة خصبة للاستقطاب والشد والجذب بين شرائح مجتمعية متباينة، جراء حالة البذخ التي يظهر عليها البعض من سكانه ورواده، مقابل حياة بائسة تعيشها فئة عريضة من البسطاء
الساحل الشمالي تحوّل إلى مادة خصبة للاستقطاب والشد والجذب بين شرائح مجتمعية متباينة، جراء حالة البذخ التي يظهر عليها البعض من سكانه ورواده، مقابل حياة بائسة تعيشها فئة عريضة من البسطاء

 

7