أبوالحسن القرشي خليفة داعش فرانكشتاين الميت الحيّ

زعيمٌ لـ"أمّة" لا رأي لها بتنصيبه وحضوره أو غيابه.
الثلاثاء 2022/06/07
"أستاذ داعش" فشل في توحيد الأمّة

هذه المرة لم يطل عهد خليفة داعش الجديد أبي الحسن القرشي، بعد تنصيبه ومبايعته في مارس الماضي من قبل من يسمّيهم التنظيم الإرهابي بـ”أهل الحلّ والعقد“، بعدما أعلنت السلطات التركية اعتقاله في إسطنبول مؤخراً.

ومنذ تأسيس التنظيم، كحركة جهادية عقائدية، شكّل العديد من الصدمات للمحيط الإسلامي وغير الإسلامي، السنّي، الذي يفترض أن يكون هو أحد تجلياته، وغير السني الذي حاربه وأصدر بحقه تكفيراً متبادلاً ليحرقا معاً الأخضر واليابس.

وفي الوقت الذي يخشى فيه البعض أن تكون صدمات الدولة الإسلامية في العراق والشام تلك قد مرّت بلا تأثير، أو فقدت مفعولها وسط حالة من الفوضى التي تضرب المشرق العربي، وعلى رأسها وأكثرها تجلياً منصب الخليفة ذاته، المختلف عليه وغير المحسوم من قبل المسلمين السنة حول العالم، تبدو الأمور بمنظور آخر أكثر تفاؤلاً.

من الأمة إلى الطائفة

الإخوان المسلمون والسلفيون وتشكيلات الإسلام السياسي حول العالم، وصولاً إلى القاعدة وداعش، كلها تنويعات على فكرة استعادة الخليفة المفقود الذي ستستعاد معه الأمّة المفقودة

منذ أن طرح المفكر المصري علي عبدالرازق في كتابه ”الإسلام وأصول الحكم“ أن نظام الخلافة وموقع الخليفة لا علاقة له بأصول الدين، وأنه نظام بشري وليس لزاماً على المسلمين أن يكون لديهم خليفة، والجدل مستمر، مترافقاً مع التحولات التي مرّ بها الإسلام خلال 100 عام إلا قليلاً، منذ معاهدة لوزان التي أنهت الدولة العثمانية عملياً، وأقامت حدود تركيا المعروفة حالياً بشكل أوّلي وفتحت الباب أمام إلغاء الخلافة.

المسلمون السنة، يعتبرون أنفسهم ”الأمّة“ وكانوا يتصرّفون انطلاقاً من ذلك، ولهذا المرتكز إيجابياته ولديه أيضاً مزالقه، فالأمة تحتوي الفروع والمذاهب، ولا تناكفها ولا تحاصصها، لكن هذا في العقود الأخيرة جعل من المسلمين السنة هدفاً سهلاً، كما في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وحين انتبهوا إلى ضرورة تصحيح الوضع، والمطالبة بحقوقهم ”كطائفة“ بدا الأمر مستهجناً من الطوائف الأخرى التي رفضت أن يسلكوا هذا المنهج وطالبتهم بالبقاء ”أمّة“ في رفوف الكتب وخزائن التاريخ.

الإخوان المسلمون، والسلفيون، وتشكيلات الإسلام السياسي حول العالم، وصولاً إلى القاعدة وداعش، كلها تنويعات على فكرة استعادة الخليفة المفقود الذي ستستعاد معه الأمّة المفقودة. ولم يكتفوا بذلك حتى بلغت بهم التحولات البنيوية والشكلية إلى أن أصبحوا، هم والخليفة الموعود، ورقة بيد اللاعبين على طاولة السياسة.

بعد إلغاء الخلافة بزغ فكرٌ جديد، قام على الانغلاق، شأنه شأن الطوائف تاريخياً، وحين ولدت جماعة الإخوان نشأت حركة دعوية ثم ما لبثت أن وقعت في مأزق الدائرة المغلقة على ذاتها، وهذا كان أول تحوّل سني من ”الأمّة“ إلى ”الطائفة“، زاده التباساً قرار مؤسس الجماعة الانخراط في السياسة، بعيداً عن هيبة العمامة التي لم تكن العامة تقبل التداول بشأنها كما تتداول شؤون السياسيين والأحزاب، ومنذ تلك اللحظة والتحوّرات السنّية جارية على قدم ساق، بوعي أحياناً، ومن دون وعي في غالب الأحيان.

المتصوفة سياق آخر، وسبقهم الخوارج، فهم أساساً يعتبرون أنفسهم تياراً موازياً خارج النسق. غير أن السنة في تحولاتهم يبدون عاجزين حتى اللحظة عن التأثير في محيطهم، ناهيك عن مجتمعاتهم، لا كطائفة ولا كأمّة، فالعمل السرّي الذي فرضه اختيار طريق السياسة والصدام مع الأنظمة ما لبث أن مسخ الأمّة إلى تنظيم سرّي، لا يعرف أحدٌ ما يدور في رؤوس قادته، بل لا يعرف من هم أولئك القادة كما في حالة ”أهل الحل والعقد“ الذي اختاروا أبا الحسن القرشي خليفة بعد قرشي آخر هو أبوإبراهيم الذي جاء بعد قرشي مؤسس هو أبوبكر البغدادي الهاشمي.

أكثر من خليفة على الأرض

◄ حالة الخليفة اليوم نوع من التركيب الكاريكاتوري، وكي يقنع الناس تسويقياً، عليه أن يكون مطابقاً للمواصفات
◄ حالة الخليفة اليوم نوع من التركيب الكاريكاتوري، وكي يقنع الناس تسويقياً، عليه أن يكون مطابقاً للمواصفات

حالة من التركيب الكاريكاتوري، أكثر من كونها بناءً لمشروع جاد، فالمفروض أن يكون الخليفة المستعاد، كي يقنع الناس طبعاً في عالم التسويق، مطابقاً للمواصفات، وبالتالي يجب أن يكون قرشياً وهاشمياً.

غير أن الخليفة على مرّ التاريخ، وبعد صدر الإسلام، لم يكن في الكثير من الأحيان تلك الحالة التي يشرف بها المسلمون، فكثيراً ما انتقلت الخلافة بالدم والحروب والوراثة والغصب (الانقلاب). بالمقابل، لم تقع الانتصارات التاريخية المبهرة في أحلك الظروف وأشدها صعوبة على يد خلفاء، وحالة صلاح الدين الأيوبي أكثر الأمثلة سطوعاً، وهو الذي لم يكن لا خليفة ولا عربياً قرشياً. وغيره من الأمثلة الكثير الذي ينقض ضرورة استعادة الأمّة باستعادة الخليفة.

وبقدر ما كان ظهور تنظيم داعش استعراضياً مدروساً، كان السماح له بالسيطرة على مساحات شاسعة من بلدين عربيين مركزيين، العراق وسوريا، والتمدد إلى نقاط أخرى في أفريقيا، مشهداً لا يغتفر، حتى اتسعت هالته واكتملت أركانه ووزاراته وجيشه وسك عملته الخاصة، شنّت الحرب الدولية عليه وتم تفتيته وتدمير رموزه وملاحقة فلوله ولم يبق منه سوى الخليفة المطارد الذي يعيش اليوم ويجري إحياؤه غداً لهذا السبب أو ذاك.

المسلمون السنة الذين يعتبرون أنفسهم "الأمّة" كانوا يتصرّفون انطلاقاً من أن الأمّة تحتوي الفروع والمذاهب، ولا تناكفها ولا تحاصصها، لكن تقلبات العقود الأخيرة جعلت من السنة هدفاً سهلاً، كما في العراق ولبنان وسوريا واليمن

المراقبون ينظرون إلى داعش كحركة جهادية إرهابية وحسب، متغافلين عن تأثيرها الفكري على المسلمين السنة ومن حولهم، وحين يسارعون إلى القول إن تنظيم داعش يتكيّف ويمتص الصدمات ويعود بعمليات منفردة هنا أو هناك، إنما يعيدون طمس حقيقة تحصل وهي أن السنة أنفسهم باتوا يرون الخليفة وخلافته أمراً لا لزوم له، مقتربين أكثر من الاقتناع بضرورة السير نحو دولة مدنية لا يحكمها رأس متصل بالسماء بل بالأرض.

وقد مروا بتجارب مشابهة من قبل، حين كان يوجد على الأرض أكثر من خليفة، في بغداد خلفاؤها العباسيون، وفي الأندلس بلغ عدد خلفاء بني أمية تسعة عشر خليفة، إضافة إلى تجربة لافتة مثلتها الخلافة الفاطمية الإسماعيلية الشيعية (غير السنية)، والتي قبلها المسلمون السنة، وهناك غيرها من النماذج التي تستوقف الوعي للنظر فيها، وهذا يعني أن الخليفة ليس ضرورة لازدهار الأمّة كما يحاول الكثيرون تصوير الأمر في عصرنا الحالي.

غير أن هذا المسار لا يُترك وشأنه، فالكل اليوم يريد الاستثمار في ملف داعش، وباتت الحرب عليه بطاقة اعتماد مصرفية سياسية تنجح كل مرة. كيف لا تنجح والاستثمار أساساً جرى في الرعب الذي قدم به التنظيم وجزّ الرؤوس وحرق البشر والسبي وبيع النساء الإيزيديات، علاوة على قتل السنة وتدمير كنوزهم الحضارية قبل غيرهم.

أخطر ما تم الاستثمار فيه من قصة داعش، هي خرافة ”البيئة الحاضنة“، التي تنظر بتعميمة فاشية إلى الملايين المسلمين على أنهم جاهزون سلفاً ولديهم قابلية عالية لاعتناق فكر داعش الإرهابي، ولئن كان التنظيم قد اختار غرب العراق وشرق سوريا منطلقاً له، فإن الوضع لم يكن ليختلف لو أنه اختار شمال أفريقيا أو وسطها أو الجزيرة العربية أو أفغانستان كما فعلته شقيقته القاعدة، إذاً فالبيئة التي ينظر إليها كحاضنة تعشش فيها أفكار داعش ليس بالضرورة أن تكون عربية بالدرجة الأولى، إنما المقصود أن تكون ”سنّية“، وهنا مربط الفرس، فبيئة داعش الحاضنة في ذهن المستثمرين في الحرب على التنظيم هي المسلمون السنة أينما كانوا، وهذا يعني حرباً مفتوحة قد تستيقظ في أيّ وقت وفي أيّ مكان.

تآكل الهاشمية

◄ خليفة داعش يمكن أن يُشاهد في إسطنبول وفي معارك قسد وإدلب، حاضراً في كل سردية أمنية مروّجة
◄ خليفة داعش يمكن أن يُشاهد في إسطنبول وفي معارك قسد وإدلب، حاضراً في كل سردية أمنية مروّجة

خليفة داعش يمكن أن يشاهد في أيّ مكان، وأن يشارك في أيّ رواية أمنية يرويها من يقاتل داعش، فالرئيس الأميركي جو بايدن كان قد أعلن أن الخليفة الذي قتلته الولايات المتحدة في فبراير الماضي فجّر نفسه في بلدة أطمة بمحافظة إدلب شمال غرب سوريا. بينما قال المتحدث باسم التنظيم أبوعمر المهاجر، في تسجيل صوتي، إن آخر معركة شارك فيها أبوإبراهيم القريشي كانت معركة سجن غويران بمدينة الحسكة. وهذا يعني أن الخليفة كان يعيش في كنف قوات ”قسد“ الكردية، قبل أن ينتقل إلى مناطق تسيطر عليها تركيا والفصائل السورية الموالية لها، أما الخليفة الجديد الذي تولى الولاية من بعده فقد تم إلقاء القبض عليه في إسطنبول بعد أن راقبت الشرطة التركية، ”شرطة مكافحة الإرهاب“  بالتنسيق مع ”شعبة استخبارات الأمن“ وبإمرة قائد شرطة المدينة ظافر أكتاش منزله لعدة أيام قبل القبض عليه دون إطلاق رصاصة واحدة، ودون وقوع أيّ ضحايا أو مصابين.

وهذا الخليفة لم يكن قد تم انتخابه من مجلس شورى التنظيم، وإنما تم تعيينه امتثالاً لوصية خلفه أبي إبراهيم الهاشمي القرشي، كما قال المتحدث باسم داعش، والتعيين بالتوصية يعتبر تخفيضاً جديداً لفكرة القداسة المتصلة بالخليفة الذي لا رأي للمسلمين بشأنه ولا مجلس شورى معتمد يختاره، فهو تآكل جديد لشرعية كانت قد أخذت تتآكل عبر الوقت.

تنظيم داعش كحركة جهادية عقائدية يشكّل العديد من الصدمات للمحيط الإسلامي السنّي، الذي يفترض أن يكون هو أحد تجلياته، وغير السني الذي حاربه أيضاً

وتضاربت المعلومات حول هوية هذا الخليفة، سواء في فترة خلافته القصيرة أو بعد القبض عليه، فبعض المصادر تقول إن اسمه الحقيقي هو زيد العراقي، وإنه كان مكلّفاً بديوان التعليم في داعش، وإنه كان من قادة الصف الأول وواحداً من الخمسة المرشحين للخلافة، وكان قد تولى عدة مناصب من بينها أمير ديوان القضاء والمظالم، والمسؤول عن إمارة المكتب المركزي لمتابعة الدواوين الشرعية، بينما نقلت وكالة رويترز عن مسؤولين أمنيين عراقيين وغربيين تأكيدهم أن أبا الحسن القرشي إنما هو جمعة عوض البدري، الأخ الأكبر لإبراهيم عوض البدري، أي أبو بكر البغدادي، وقد لعب دور المستشار الشرعي قرب أخيه وفقاً لما أفاد به مسؤول غربي.

ويبقى استطلاع مؤسسة ”غالوب” الشهير الذي أجرته بين مسلمي مصر والمغرب وإندونيسيا وباكستان، ماثلاً أمام العيان، حين يؤشر إلى أن ثلثي المشاركين ما زالوا يؤيدون فكرة “توحيد كل الدول الإسلامية” في خلافة جديدة.

الخليفة الذي كان يلقّب بـ”أستاذ داعش“ فشل في توحيد ”الأمّة“ وقيادتها نحو دولتها الإسلامية المنشودة، ومن المرجّح أن يخلفه بالنيابة، وهو في حالة أسر شرعاً، واحد من رفاقه الأربعة؛ أبومسلم الأنباري، أو أبوخديجة، أو أبوصالح المقربان من البغدادي، إضافة إلى القائد الميداني أبي ياسر العيساوي. والأربعة عراقيون في استمرار لنهج استهداف الهوية في هذا البلد، وفي تكريس متواصل لهدم الهاشمية الذي لن يتوقف عند حدود السنة منهم أو الدواعش بل سيتجاوز ذلك إلى أعدائهم أيضاً فخامنئي هاشمي قرشي وحسن نصرالله هاشمي قرشي والحوثي هاشمي قرشي أيضاً.

◄ المراقبون يرون داعش مجرّد حركة إرهابية، متغافلين عن تأثيرها الفكري

12