أبناء الهاتف وعناد الكهول

أكبر خطر يهدد البلاد هو أن يصبح الجهاز جهازا ذكيا قادرا على افتكاك الأبناء من أوليائهم ومن مجتمعهم.
الثلاثاء 2025/01/21
عصر التكنولوجيا

علقت سيدة بعفوية وتلقائية على الإضراب المفاجئ الذي شنه طلبة الثانويات قائلة “لم يعد لنا أبناء مع الهاتف،” في تلميح إلى سطوة أجهزة الهاتف الذكي على تفكير وسلوك وحتى قرارات الفئات الشابة والمراهقة في المجتمع، إلى درجة أنه لم تعد للأولياء وحتى لمؤسسات الدولة سلطة على هذه الفئات.

كل شيء بدأ بسيطا وهادئا منذ أيام قليلة على شبكات التواصل الاجتماعي، عبر مناشير رفعت عدة مطالب تعليمية، وخلصت إلى شن إضراب مفتوح الى غاية تحقيقها، وبدا الأمر في غاية الاستسهال؛ كون الآليات التقليدية، كالنقابات والتنظيمات المهنية والاجتماعية، صارت تجد صعوبات وتعقيدات جمة في تعبئة الشارع، وأما أن يكون افتراضيا فذلك مستحيل.

هكذا ساد الاعتقاد، إلى أن تفاجأ الجزائريون بإضراب شل ثانويات البلاد في مختلف المدن والمحافظات، وتأكد لهم قول السيدة إنه لم يعد لهم أبناء مع هذا الجهاز السحري، وهذا العالم المتحرك الذي يختطف الأبناء من حضن أوليائهم ويجرهم إلى الأخذ بناصيتهم وحدهم.

اعتقدت الحكومة خلال الأسابيع الأخيرة أن إقرارها القوانين الأساسية لمنتسبي قطاعي التربية والصحة، بشكل يؤمن لهم زيادات معتبرة في الرواتب والمنح، سينهي صداع الجبهة الاجتماعية، بما أن القطاعين يشكلان ضلعين قويين في مجسم الوظيفة العمومية، لكن بما أن الشيطان يكمن في التفاصيل فإن الخطوة لم تحقق الارتياح المأمول وظهر امتعاض لدى بعض النقابات المستقلة، بسبب ما وصف بـ”الحيل” و”تأليب الفئات الأخرى”، اللذين مارستهما الحكومة على منتسبي قطاعي التربية والصحة.

بالمنظور التقليدي إلى غاية أيام قليلة كان بالإمكان كتم الأصوات والتضييق على الشركاء الاجتماعيين للانخراط في أي مسعى تتبناه الحكومة، لكن المفاجأة التي أحدثها إضراب طلبة الثانويات قطعت مع العهد القديم وفتحت المجال أمام عهد جديد مفاده أن الآليات التقليدية انتهت صلاحيتها أمام التحولات الخفية والغامضة التي يمكن أن تجند فئة من المراهقين وتجعلها تخترق جدار الصمت.

“الكهول”، مصطلح شعبي متداول على نطاق واسع في الجزائر، ويطلق على فئة الأجيال القديمة المتربعة على عرش القرار، الرافضة لسنن التغيير والتسليم بحركية التحول السوسيولوجي، الذي تُستوجب مواكبته قبل حدوث الفجوة التي لا مرمم لها إذا حدثت.

هؤلاء متهمون بعرقلة نهوض البلاد، بسبب عنادهم وتمسكهم بالمشعل، رغم أنهم يدركون أنه سينطفئ بين أيديهم وستحرقهم ناره، لأنهم لم يهضموا منطق التداول بين الأجيال، ولذلك يصرون على إدارة الشأن العام بآلياتهم البالية، لكن الأجيال الشابة ما فتئت تفاجئهم من حين لآخر.

كيف تبلور قرار الإضراب وأين نوقش ومن هو صاحب الفكرة؟ لا أحد يعلم ذلك، إلا أن ثانويات البلاد شُلت والمراهقين فاجأوا الكهول، وهذه رسالة تتوجب قراءتها وفهمها، وأول عناوينها أن الآليات التقليدية لم تعد قادرة على رصد نبض الشارع، وأن الإدارة البيروقراطية التي تعتقد أن تسيير المجتمع يتم من المكاتب انتهت صلاحيتها، فمجرد فكرة اختصرها منشور على إحدى منصات التواصل الاجتماعي، كانت كافية لتخطي “عبقرية الكهول”.

كان جدير بالحكومة، قبل أن تطلق العنان للمن على منتسبي قطاعي التربية والصحة، أن تستمع إلى جميع الشركاء والممثلين الحقيقيين لهؤلاء، لأن التداعيات يبدو أنها تدفع إلى تفجير القطاعين والجبهة الاجتماعية معا، ورسائل الإضرابات التي شنتها بعض الفئات، قبل الإضراب المفاجئ لطلبة الثانويات، دليل على أن العبرة في فاعلية الدواء وليست في إصدار الوصفة الطبية.

اختراق اجتماعي أو افتراضي، تحول عميق أو رسائل مشفرة، كلها توصيفات تليق بإضراب طلبة الثانويات، لأن مجتمع الكهول لا يزال يعاند في فهم حركية الأجيال الشابة، ولا يريد التسليم بمنطق العصر، وأكبر خطر يهدد البلاد هو أن يصبح الجهاز جهازا ذكيا قادرا على افتكاك الأبناء من أوليائهم ومن مجتمعهم.

18