آه.. لو يعدْ بي الزمن

آه لو يعدْ بي الزمن 65 عامًا إلى الوراء. ليس تمسكًا بالحياة ولا رغبة في تحقيق ثروة كبيرة أو امتلاك يخت أطوف به العالم.
أعراض حمى الرومانسية التي ظهرت علي فجأة سببها الفأر ميكي، الذي عاد إلى الأخبار بمناسبة مرور 90 عامًا على إصدار أول عدد من مجلة “ميكي”. والغريب أن الإصدار الأول كان باللغة الفرنسية وفي فرنسا، ولم يكن في الولايات المتحدة حيث ابتُكرت الشخصية.
في عام 1923 شق والتر إلياس ديزني، المولود في شيكاغو عام 1901، طريقه إلى هوليوود حاملًا في جيبه 40 دولارًا، بعد عودته من فرنسا حيث عمل سائق سيارة إسعاف خلال الحرب العالمية الأولى. وأسس مع أخيه روي شركة ديزني، تاركًا إرثًا إبداعيًا يقدر بالمليارات من الدولارات وعدد لا يحصى من الأفلام.
في مقابلة تلفزيونية عام 1954، قال والت ديزني “فقط تذكر أن كل شيء بدأ بفأر”. عام 1954 هو العام الذي ولدت فيه، لذلك أستطيع القول إن طفولتي كلها بدأت بفأر.
لم يصبح الفأر الذي أشار إليه والت ديزني بطلًا على الشاشة فحسب، بل تجده في كل مكان يبتسم على القمصان وكرات القدم وأكواب فرشاة الأسنان.
في سوريا وفي اللاذقية، الميناء الساحلي، وكانت آنذاك أقرب إلى القرية منها إلى المدينة، تعرفنا على ميكي ماوس في بداية الستينات، بعد أن ظهرت مجلة “ميكي” بنسختها العربية عام 1959 عن دار الهلال المصرية التي أسسها اللبناني جورجي زيدان عام 1892. كان ذلك يوم 1 كانون الثاني – يناير.
مجلة “ميكي” المتقشفة كانت تُطبع على ورق أصفر خشن رخيص الثمن وبألوان رديئة بعضها يتداخل مع بعض، وكان الموزع يبقي أطرافها ملتصقة حتى يتمكن من ضبط الأعداد المباعة.
وكان بائع الصحف يحتال على الأمر ويفتح نسخة منها يؤجرها لنا لنتلذذ بقراءتها ثم نعيدها إليه مقابل خمسة قروش.
لم أعرف في طفولتي أن الفأر الذي أشار إليه ديزني أصبح بطلًا على الشاشة. غادرت مرحلة الطفولة مبكرًا ودخلت عالم الكبار.. عالم الحروب.
حرب 1967، حرب 1973، الحرب الأهلية في لبنان 1975، مواجهات الإخوان المسلمين في سوريا 1980، وهو العام الذي شهد أيضًا بداية الحرب العراقية – الإيرانية التي استمرت حتى 1988، الغزو العراقي للكويت 1990، والغزو الأميركي للعراق 2003، ثم الأحداث التي سميت خطأ وشماتة بالربيع العربي، وعشرات الحروب الأهلية التي لا مجال لذكرها وصولًا إلى “طوفان الأقصى”، الذي استُعمل مبررًا لتدمير غزة وتشريد من بقي حيًا من أهلها.
في غفلة منا كبر فأر والت ديزني، وأصبحت ديزني دولة داخل دولة، وهي تخطط اليوم لعالم يتمكن فيه المستهلك عبر الإنترنت من اللعب والمشاهدة والتسوق والتفاعل مع شخصيات وقصص من ديزني وبيكسار ومارفل وحرب النجوم وأفاتار.
في الوقت الذي كانت فيه أحلام الطفولة تتحقق في الولايات المتحدة وغيرها من الدول المحظوظة، كانت أحلام الطفولة في المشرق تُسرق منا.
كل ما أحلم به الآن أن أعود 65 عامًا إلى الوراء قابضًا على خمسة قروش أمدها لصاحب كشك الجرائد، وأعود إلى المنزل ضامًا إلى صدري مجلة “ميكي” أشم رائحة حبرها الرخيص وأتحسس ورقها الخشن.