آن لسوريا أن تستريح

كل شيء غامض عن ماضي أحمد حسين الشرع وحاضره ومستقبله؛ ماذا يخفي هذا الشاب الأنيق الذي يتحدث بهدوء عن التسامح والمصالحة ويحذر من ممارسة أعمال انتقامية ويدعو إلى احترام حقوق الأقليات؟
الاثنين 2024/12/09
صورة أقوى من ألف بيان

بعد أكثر من ستين عاما من حكم الحزب الواحد، أراد السوريون التغيير حتى لو كان البديل هو الشيطان نفسه. هذه الحقيقة رفض النظام السوري إدراكها رغم أكثر من نصف مليون قتيل منذ بدء أحداث 2011 حتى اليوم. ورغم 12.3 مليون شخص هجروا سوريا، يقيم أكثر من نصفهم في مخيمات بدول مجاورة وفي ظروف يمكن أن توصف بأنها لا إنسانية.

في 8 مارس- آذار 1963 استلم حزب “البعث” الحكم في سوريا. كنت آنذاك في التاسعة من عمري، واليوم أتممت عامي السبعين. لم يتبدل المشهد على مدى الفترة المذكورة، وفي أي انتخابات كانت تجري يكون فوز البعثيين مضمونًا مسبقًا.

أمضيت خارج سوريا أكثر من أربعين عامًا. لم أكن يومًا من المعارضة ولم أكن يوما مؤيدا للنظام الحاكم. زرت سوريا مرتين، ليس بسبب الجفاء، ولكن لسبب بسيط؛ كلما دخلت سوريا انتابني إحساس بأنني أدخل معتقلًا كبيرًا أخشى أن تُقفل أبوابه عليّ.

◄ كل ما كان على النظام السوري عمله هو الإصغاء لهؤلاء وبث الطمأنينة في أنفسهم بإعلان العفو العام. النظام ومؤيدوه عملوا عكس ذلك تماما بإصرارهم على إدانة كل من غادر سوريا واعتباره خائنًا

هذا الشعور يعيشه الملايين من السوريين الذين احترقوا شوقًا لزيارة بلدهم، ولكنهم خشوا الوقوع أسرى داخل جدران المعتقل الكبير. الغريب، بعد ذلك، أن أي مسؤول سوري كان يردد أن الحكم في سوريا ديمقراطي ويحترم حقوق الإنسان. ويبدو لي أنهم بمرور الوقت باتوا يصدقون الكذبة التي أطلقوها.

أي ديمقراطية تحدثوا عنها ونصف الشعب السوري يعيش في المنافي بعيدًا عن الوطن؟

رغم كل الفرص التي مُنحت للحكومة السورية لتحقيق المصالحة، كانت في كل مرة تختلق المبررات والأعذار للتنصل من تنفيذ ما تعهدت به.

حتى بعد الضربة الأخيرة التي وُجهت إلى حماس وحزب الله في لبنان وتجريد إيران من أذرعها، رفض بشار الأسد اليد التي مدها إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للمصالحة. ما أراده النظام دائما هو معارضة يفصّلها على مقاسه ويضمن معها الجلوس إلى طاولة المفاوضات لتحقيق مكاسب مسبقة.

عندما سقطت مدينة حلب ومن بعدها حماة، رفضت أن أصدق ما يحدث. كنت أخشى أن يكون ذلك بداية مجازر ومذابح جديدة تُرتكب بحق الشعب السوري. وكنت أخشى أكثر أن تنتهي سوريا لتكون بين أيدي تنظيمات إرهابية، خاصة أن الحراك يتزعمه تنظيم هيئة تحرير الشام المصنفة ضمن التنظيمات الإرهابية بقيادة أبي محمد الجولاني.

بادرت إلى الاتصال بأصدقاء يعيشون خارج سوريا، وهالني أن أسمع منهم أنهم لا يمانعون في أن يكون الجولاني بديلًا عن بشار الأسد. يكفيهم أن يعودوا إلى سوريا أو يقوموا بزيارتها دون أن يتعرضوا للمضايقات، حتى لو كان الشيطان يحكمها.

◄ رغم كل الفرص التي مُنحت للحكومة السورية لتحقيق المصالحة، كانت في كل مرة تختلق المبررات والأعذار للتنصل من تنفيذ ما تعهدت به

انكفأت على نفسي ورحت أبحث عن معلومات عن “الشيطان” الذي قد يكون شريكا في حكم سوريا. سبق أن سمعت باسم الجولاني، ولكني لم أكترث يومًا بمن يكون، ولم أنشغل بالبحث عن معلومات عنه. كان يكفي أن أعرف أنه متهم بالإرهاب.

ماذا يخفي هذا الشاب الأنيق الذي يتحدث بهدوء عن التسامح والمصالحة ويحذر من ممارسة أعمال انتقامية ويدعو إلى احترام حقوق الأقليات؟ باستثناء علاقته الموثقة مع تركيا، كل شيء غامض عن ماضي وحاضر ومستقبل أحمد حسين الشرع، المكنى بأبي محمد الجولاني. الشاب الذي عاد إلى سوريا عام 2011 بعد سبع سنوات قضاها مقاتلًا ضمن تنظيم القاعدة برفقة خمسة مقاتلين، لتأسيس فرع للقاعدة باسم جبهة النصرة. حتى مكان مولده وتاريخه مازال موضع خلاف.

سرعان ما تنامت مجموعة الخمسة مع انضمام أعداد متزايدة إليها لتضم اليوم قوة عسكرية كبيرة يتراوح عدد المقاتلين فيها بين 20000 و30000 مقاتل. خلال 13 عامًا لم يُكشف الكثير عن شخصية الجولاني، وبدا الأمر وكأنه يستمتع بالغموض الذي ضربه حول نفسه، بما في ذلك تاريخ ولادته ومكانها.

وهنا لا بد من ملاحظة أن الجولاني الذي اتهم بالإرهاب من قبل الولايات المتحدة، غيّر خلال هذه السنوات اسم المجموعة إلى جبهة فتح الشام، ثم عاد لتغييره ثانية ليبتعد به عن الإيحاء الإسلامي، حيث أسقط كلمة “فتح” لتحل محلها كلمة “تحرير”.

◄ حتى بعد الضربة الأخيرة التي وُجهت إلى حماس وحزب الله، رفض الأسد اليد التي مدها إليه أردوغان للمصالحة. ما أراده النظام دائما هو معارضة يفصّلها على مقاسه

التغيير لم يطَل الاسم فقط، بل تغير المظهر وتبدلت الملابس، ومعها تبدلت القناعات. في عام 2013، أجرى مقابلة دون أن يكشف عن وجهه، وقال إن ما يسعى إليه هو أن يرى سوريا تُحكم بموجب الشريعة الإسلامية، وأن لا مكان فيها للأقليات.

بعد ثماني سنوات ظهر في مقابلة مع محطة “بي بي أس” الأميركية في برنامج “فرونت لاين” مرتديًا قميصًا وسترة، ليؤكد أنه يعارض قتل الأبرياء -بالطبع لم يذكر كيف يفرق بين المذنب والبريء.

منذ شهرين تقريبًا كتبت أن العودة إلى الوطن حلم يراود 12 مليون سوري اضطروا إلى النزوح واللجوء. وقلت إن دمشق تحتاج إلى اتخاذ خطوات جادة لبناء الثقة مع هؤلاء المهجّرين. يجب أن تكون هناك ضمانات حقيقية لسلامتهم وحقوقهم، والأهم أن يشعروا بأنهم مرحب بهم في وطنهم دون خوف من الانتقام أو الاعتقال.

كل ما كان على النظام السوري عمله هو الإصغاء لهؤلاء وبث الطمأنينة في أنفسهم بإعلان العفو العام. النظام ومؤيدوه عملوا عكس ذلك تماما بإصرارهم على إدانة كل من غادر سوريا واعتباره خائنًا.

لو لم يصم النظام السوري آذانه، لجنب نفسه وجنب البلد كل هذه المآسي. لكن، مع الأسف، لم يتخذ النظام أي خطوة في هذا الاتجاه. لذلك، لا يهم السوريين اليوم أن يكون الشيطان الذي يعرفونه أفضل من الشيطان الذي لم يتعرفوا عليه بعد. ما يهم هو أن تصان حريات الأقليات وحقوقها، وأن تسقط جدران المعتقل ويعود اللاجئون والمنفيون إلى المنازل التي هُجّروا منها.

آن لسوريا بعد كابوس استمر أكثر من ستين عاما أن تستريح.

9