آن الصافي: الثقافة السودانية انتصرت على ثلاثة عقود من الخراب

تنغمس الرواية العربية حاليا في قضايا حاضرة وماضية لمُساءلة القيم الثقافية الغائبة والمهمّشة في ظل تغيرات كبرى طرأت على العالم. وفي رواية “خبز الغجر”، للكاتبة السودانية آن الصافي تشريح لعدد من هذه القضايا الثقافية. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الروائية حول مشروعها المعروف بـ”الكتابة للمستقبل”، والدوافع التي دفعتها إليه.
تتناول رواية “خبز الغجر” للكاتبة آن الصافي، والتي صدرت حديثا عن دار “فضاءات” للنشر والتوزيع، مفهوم الاقتصاد السلوكي وعلم نفس المجتمعات، وتتطرق إلى قيمة التعايش السلمي والتسامح والاحتفاء بالطبيعة والتنوع الثقافي، وتتحدث عن قضايا الثقافات الأصلية، وعلاقتها بمجتمعات المهمّشين والتطرق إلى مصيرها مع التغيرات التي تحدث عمدا أو سهوا.
وهناك عمل تشريحي عبر التقنية المستخدمة لهذه العوالم في التشابك والتلاقي والعبور نحو إعادة تعريف مسمّى الهوية والانتماء والوطن، ودور الاقتصاد في تشكيل تركيبة المجتمعات.
صوصية ثقافية
تلفت آن الصافي في حديثها لـ“العرب”، إلى أن كل عمل في مشروع “الكتابة للمستقبل” له دور وعوالم تخصّه، وتسعى قدر المستطاع نحو الابتكار بشكل يخدم قضايا كل عمل وفكرته بتلقائية. وأصدرت الكاتبة السودانية من قبل، العديد من الأعمال الأدبيّة، أبرزها “فُلك الغواية”، و“جميل نادوند”، و“قافية الروح”.
وقدمت مشروعها إلى المشهد الثقافي بأفكار وقناعات معيّنة، وترى أن أدوات العصر الحالي جديدة تماما على البشرية ولها تأثيرات جليّة، مثلما توصل إليه العلم والتقنيات الحديثة من ذكاء اصطناعي وتقنيات دقيقة وعلم البيانات وسهولة التنقل والقضايا التي تتعلق بالبيئة، أي أن منظومة الحياة لم تعد كما كانت قبل عام أو عشرة أعوام أو مئة عام.
كما أن الفئات العمرية التي تقل عن 25 عاما هي النسبة الأكبر في خارطة سكان المنطقة العربية، كيف هو واقعها، وماذا ينتظر منها، وهل وجدَت أجيالا سبقتها مستعدة لدعمها والوقوف معها لتحقيق رؤاها، وكيف يبدو مسارها في المستقبل؟
يبرز في كتابات الصافي الجمع بين الاهتمام بثقافة وتراث بلدها، وقضاياه المحلية، وفي الآن ذاته مُخاطبة أطياف مختلفة من القراء.
وتقول الصافي “لنفترض أن كل مجتمع على هذا الكوكب له خصوصيته من موروثات وأجواء المكان من طبيعة وبيئة وأثر، ببساطة فكل له ثقافته وقضاياه وحين تتلاقى الثقافات تحت مسمّيات مثل التنوع أو التعدد ينشأ ما هو جديد”.
وتوضح “نتمنّى أن يكون كل تلاقٍ بغرض التنوع ولن يحدث ذلك ما لم تكن هناك أخلاقيات وقيم تعزز هذا التلاقي السامي، مثل التسامح والسلم، فالجميع مهمّ وله خصوصية، لكن سنّة الله البقاء للأكثر خيرا ونفعا وصلاحا لمسار الحياة”.
وتشدّد على أن هذا ليس بالقول المثالي، فلنا النظر إلى التاريخ القريب والبعيد، مهما طال الزمن سوف ينتصر الخير، وقد قامت أدوات عصرنا الحالي بعمل جبّار في التقريب بين البشر في أصقاع الأرض وتبادل المعلومة، وبعد وباء كورونا لا ينفع الجدل أن هذه مجرد أفكار لا جدوى منها، بل على العكس تماما فهذه الجائحة كشفت لكل مجتمع أين هو وتحديات الحياة في هذه الحقبة الزمانية.
وتكمن المتعة بالنسبة إلى الكاتبة السودانية في تقديم النسيج السردي بشكل يجد القارئ فيه أنه متورط في النص، وهو عنصر رئيسي في العمل، مع شخوص وأحداث تجتمع تحت مظلة واحدة، وكل شخصية لها محور يخصها، وقضية تحملها، فجميع الشخوص أبطال في هذا العمل، وهناك الحوار والمونولوج والنقلات الزمانية والمكانية كمسرح يتسع للجميع ليقول كل فرد ويفعل ما يشاء.
وتؤكد الصافي لـ”العرب” أن كلا له قاموسه وشخصيته الاعتبارية، ويحمل ثقافته ويعتز بها، من النص سيُفهم من الذي يسعى لإذابة المجتمعات الأصيلة وتشتيتها المكاني بحيث تضمحل دون أن يشعر بها مع الوقت.
تحولات متسارعة
تؤمن آن الصافي أن الوقت الراهن وقت النقد الثقافي، والمطلوب أن يتناول ما يُقدّم عبر الإبداع، فالتغيرات في تفكير ومسار الفرد والمجتمع ومنحى الحضارة الإنسانية تتسارع بشكل غير مسبوق.
ومن هنا يجد الباحث والدارس وصناع القرار ما قد يشرح ما نحن عليه وما يمكن أن يقدم الأفضل لإنسان اليوم والغد، فثمة ثغرات في ما ورث من الماضي تتسبّب في إشكاليات اليوم، فلم لا نأخذ بالموضوعية والعلم لنقف عند قضايانا بحياد.
وتشير إلى أن ثقافة الشعب السوداني قوية لعراقتها وجمالياتها المميزة، وتشرّبت وتعتز بها، وهي لصيقة جدا بقضايا الوطن ومجريات الأحداث، وهناك حنين دائم يجعلها تشعر بالمسؤولية نحو وطنها وشعبها.
وعاشت الصافي جل عمرها في مدينة أبوظبي، والتي تحمل سمات المدينة الحديثة الحاوية للثقافات المتنوعة (الكوزموبوليتان) مثل جميع مدن دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي قدمت معطيات ثقافية كبيرة للعالم.
وبحكم الدراسة والعمل تنقلت الروائية السودانية بين عدة دول، وتعرّفت على ثقافات المجتمعات، ووجدت في الكتابة ما يعبّر عن رؤاها ومشاهداتها، وربما عن أجيال تنتمي إليها، وعايشت تطورات هذا العصر.
وعن التحديات التي تواجهها في أثناء كتابة نص جديد ومقدار العفوية والتخطيط في ما تكتب، تقول “نشرت قرابة العشرة نصوص تتضمن روايات، ومئات الأوراق والمقالات الفكرية الثقافية، إلا أنني أعتبر الكتابة هواية محبّبة إلى نفسي، فلا يوجد ما يُملى عليّ، فقط أترك سجيتي محلقة في عوالم القراءة والمشاهدة لأعود لنسج تصورات
ورؤى أكون حريصة دوما على عدم التكرار”.
وهذه الآلية بالنسبة إليها تشبه التنقيب في الذات ومخزون ما في عوالمها، علّها تحصل مع كل عمل مقدم على ما هو إضافة حقيقية للمشروع الذي تعمل عليه، وتسعى نحوه، وتتمكن من تجديد تواجدها في هذا الكون.
وتلفت إلى أهمية القراءة في مواضيع متنوعة والشغف بعوالم الإبداع مع محاولة دراسة وفهم مجريات الأحداث من حولها والتشريح العلمي بموضوعية للقضايا، وكل ذلك يجعل فكرة العمل واضحة أمامها، وعليها فقط أن تبدأ بالكتابة لتأتي بشخوص العمل، وكلٌّ يؤدي دوره بما يشبه الاستقلال، وكلٌّ له شخصيته وحضوره وثقافته التي تخصه.
الكاتبة تشدد على أهمية القراءة في مواضيع متنوعة والشغف بعوالم الإبداع مع محاولة دراسة مجريات الأحداث وفهمها
ويتطلب الأمر الوقوف عند الجانب النفسي والتقرّب من كل ذات في العمل حتى يكون نسجها مقنعا ما أمكن، وبعد الانتهاء من العمل تتأمل الشخوص فقد يحمل بعضها ملمحا من شخوص في الواقع، لكن في المجمل تحترم الشخصية في العمل.
وتكشف الصافي أن العقود الثلاثة الأخيرة غيّرت الكثير في حياة الشعب السوداني من تدمير للبنية التحتية ومحاربة الإبداع بكل أشكاله، إلا أن الثقافة أصيلة وعريقة، ولذلك قاومت لأجل الاستمرار، وبالرغم من كل الصعوبات، إلا أن الكثير من الأقلام السودانية قدمت إبداعها بشكل مواكب وتخطت الحدود بروح مثابرة.
وثمة أسماء يُحتفى بها داخل وخارج الوطن، وتظل الأجيال السابقة داعمة وبروح سامية تشجع وترعى المواهب، وهذا التلاحم البناء عبر تبادل الخبرات من سمات المجتمع السوداني، الذي يعتز به، وكل له موهبته وأدواته. وتزخر المكتبة السودانية بالتنوع والأعمال المتوافقة مع عطاء كل جيل، وعليه يُنتظر الكثير من الإبداع في المشهد الثقافي خلال المرحلة المقبلة.
وختمت الصافي حوارها مع “العرب”، قائلة “جميع أعمالي تتم تحت مشروعي، منها ما هو معد للنشر، مثل الجزء الثالث من كتاب ‘الكتابة للمستقبل’، ورواية للناشئة أسميتها ‘آكينوش’ ورواية تفاعلية ستكون في أجزاء، وهي مشتركة مع الزميل عبدالواحد ستيتو، ونعدّ الجزء الأول للنشر قريبا تحت مسمى ‘في حضرتهم”.