آسف عزيزي جورج
على مدى التاريخ العربي، دفع كتاب وفنانون ورسامو كاريكاتير ساخرون حياتهم ثمنا لسخريتهم من أنظمة حكم قمعية وبعضهم تمت مصادرة حرياتهم في سجون بغيضة بسبب تلميحات طالت زعماء وحتى مسؤولين من الدرجة العاشرة، فأسَرت بنات أفكارهم مثل سبايا حرب بربرية ولم تبق منهم سوى أشباح تخاف حتى من خيالها.
السخرية فعل من أفعال المقاومة والرفض والاحتجاج على واقع مرير ومصير مبهم، وهي طريق بديل عن الاستسلام لموت يومي ومحاولة بريئة لوضع باقة زهور على ضريح أحلام ضاعت ومصائر بعثرت.
في وسائل الإعلام الغربية، انتعشت صناعة السخرية السياسية باعتبارها شكلا متطورا من الإبداع اجتذبت إليها جمهورا عريضا من المتابعين، الذين يحلو لهم أن يقحموا سياسييهم الأبرياء في أشكال كاريكاتيرية لمجرد الاستمتاع بهذا الفعل الحضاري الذي لا يتسبب في أذى ظاهر؛ فلمن يغامر ويضع نفسه في مقعد وثير يعلوه منصب سياسي فاخر عليه أن يتحمل تبعات ذلك وأن يضع حياته الشخصية وكل تحركاته وسكناته رهنا لمزاج جمهور متعطش أبدا للزلات بكل أشكالها.
حفظ لنا التاريخ أجمل الحوارات الساخرة بين عباقرة في الفن والسياسة والأدب، أكثرها شهرة كانت الرسائل القصيرة التي تبادلها رئيس الوزراء البريطاني الداهية؛ ونستون تشرشل وصديقه المشاكس الساخر جورج برناردشو. فذات يوم، وبينما كان شو يستعد لتقديم إحدى مسرحياته أرسل إلى تشرشل بطاقة دعوة كتب فيها “عزيزي ونستون، أرسل لك تذكرتين لحضور مسرحيتي الجديدة، بإمكانك أن تحضر ومعك صديق، هذا إذا كان لديك صديق”! ولم تمر الدعابة الساخرة في رسالة شو على ذهن السياسي المحنك مرور الكرام، فعاجله برد سريع كتب فيه “آسف جدا عزيزي جورج، لن أستطيع حضور العرض الأول لمسرحيتك، ولكن سأحاول حضور العرض الثاني، هذا إذا كان هناك عرض ثان”!!
لم يتحمل شو أي تبعات على سخريته اللاذعة أيا كانت الشخصية السياسية التي تناولها بمشرط كتاباته وكذلك مثله، تمتعت جماهير شعبه بفكاهته وسخريته وتداولوهما في جلسات شاي العصرية مع قطع البسكويت اللذيذة، ولم نسمع يوماً بأن تشرشل كان أرسل أحد معاونيه ليخرج على صفحات الجرائد ويشتم الشعب البريطاني، ولا سولت له نفسه أن يسن حبل المشنقة ليعلق عليه المسكين شو من رقبته النحيفة.
في أيامنا هذه، حيث العشرات من البرامج السياسية والصحف والدوريات المتخصصة في السخرية، التي تتابع على نطاق واسع في الولايات المتحدة وبريطانيا ومعظم دول أوروبا، لم نسمع يوما أن أعضاء الهيئة السياسية فيها قد تصدوا لمنع عرض برنامج أو إخضاع أي مبدع للمحاكمة. تداول النوادر بين فئات الشعب عن سياسييهم جزء من برنامج العلاج النفسي الذي يستخدم الضحك لترويض المشاعر السلبية، ومنعها من التحول إلى أفعال ثورية لا تؤمن عواقبها.
لكن حين يخرج علينا سياسي أو رجل دين عراقي مثلا ويوجه إهانة مزوقة للجمهور الكادح ويلبسها ثوب النصيحة الأخوية، فإن أي تلميح أو كلمة رد شعبية تطال كبرياءه حتى وإن كانت في صيغة نكتة سوداء أو مزحة مغمسة بالمرارة في مواقع التواصل الاجتماعي، فإنها تستدعي غضبا هستيريا يخرج على شكل هفوات لا تغتفر من قبل أفراد في مناصب رسمية تصدوا للدفاع عنه، من أفواه تشبه كثيرا حمم بركان ثائر في عز شبابه.
أحصى عدد من المراقبين، النكات التي خرجت إلى الشمس في غضون أسبوع واحد من تاريخ تحرير الإهانة للشعب المفجوع، فخرجوا بنصيحة ذهبية للسادة الغاضبين تقول: هدئوا من روعكم، السخرية تحلية جيدة مع شاي العصرية، استمتعوا بمذاقها، واتقوا شر الحليم إذا غضب.