آرثر ريان الأب الروحي لبرايمارك الذي سيطر على الأسواق

"برايمارك" اليوم هي أكبر سلسلة تجارة تجزئة للملابس في العالم، وحسب آخر الإحصاءات، فإن الشركة التي افتتح ريان أول متجر لها منذ 40 عاما، انتشرت فروعها وتوسعت حتى وصل عددها إلى 350 في 11 دولة.
الأحد 2019/07/14
ذوق قادم من الستينات يغيّر مفهوم العالم عن التسوق

 يعتبر خبراء التسويق حول العالم أن فيليب كوتلر هو رائد ما يسمونه بـ”علم التسويق” بلا منازع، وهو الذي برع في حقل الـتسويق لشركات كبيرة مثل “آي.بي.أم” و”جنرال إلكتريك” وشركات أخرى عملاقة غيرها. كوتلر ابتكر 80 قانونا تسويقيا اشترط على من يطمح إلى أن يرغب في تسويق بضائعه أن يكون متمكنا منها.

ما لاحظه كوتلر هو أن نسب النمو السنوية المتوقعة من قبل المتنافسين تزيد عن نسبة نمو السوق الفعلية، وإذا وضعت كل شركة نسبة نمو مأمولة في مبيعاتها تصل إلى 10 بالمئة في الوقت الذي لا تصل فيه النسبة الفعلية لنمو السوق إلا إلى 3 بالمئة فإن ما يحدث فعليا هو زيادة فائضة وكساد وخسائر. ولذلك فقد استنتج كوتلر أن “المشكلة التي تواجه قطاع الأعمال اليوم ليست نقص البضائع بل نقص المستهلكين، فمعظم صناعات اليوم يمكنها توفير بضائع تزيد عن قدرة المستهلكين على الشراء”.

لكن الرجل الذي رحل عن عالمنا قبل أيام، تفوق على كوتلر. لم يكن من محبي الأضواء، بل إنه ابتعد طوال حياته عن الإعلام، فضّل صبّ جهوده كلها على تطوير مشروعه. عمل لسنوات في التجارة قبل افتتاحه أول محلاته، ومنها اكتشف أن أصحاب المشاريع التي تكون على تماس مباشر مع المستهلك، هم من يحققون الربح المادي الأكبر، لذلك أحب التجربة التي قامت على المجازفة. إنه آرثر ريان الأب الروحي للعلامة التجارية المثيرة للجدل “برايمارك”. وكما حافظ على ذوقه وطرازه القادم من ستينات القرن العشرين حتى حين أصبح شهيرا، لم يبتعد ريان في بداياته عن مكان عمله في العاصمة الأيرلندية دبلن. افتتح فيها أول متجر للملابس وأشرف عليه شخصيا، وأطلق عليه حينها اسم “بينيز”، وما لبث متجره هذا أن اكتظ بالزبائن، هذا النجاح شجع ريان على التوسع وافتتاح ثلاثة فروع أخرى بأيرلندا في غضون عام واحد فقط.

برايمارك فكرة

مستهلك العصر الحالي يذهب إلى هدفه مباشرة دون أن تغريه العلامات التجارية، التي روّج لها عالم الإعلانات طويلا وكرسها في أذهان الناس حتى باتوا يقبلون بأسعارها دون أن يدققوا في جودتها، وهو نوع من الإذعان في ما بين طرفي تلك المعادلة؛ البائع المبتكر والمشتري.
مستهلك العصر الحالي يذهب إلى هدفه مباشرة دون أن تغريه العلامات التجارية، التي روّج لها عالم الإعلانات طويلا وكرسها في أذهان الناس حتى باتوا يقبلون بأسعارها دون أن يدققوا في جودتها

منذ تلك اللحظة وحتى وفاته، عمل ريان على أن تصبح “برايمارك” أكبر سلسلة تجارة تجزئة للملابس في العالم. وحسب آخر الإحصاءات، فإن الشركة التي افتتح ريان أول متجر لها منذ قرابة 50 عاما، انتشرت فروعها وتوسعت حتى وصل عددها إلى 350 في 11 دولة، ويشتغل فيها أكثر من 75 ألف شخص.

طموح ريان الكبير لم يتوقف عند حدود وطنه أيرلندا، اتجه نحو أوروبا وصوب أسواق لم تكن لديه أيّ خبرة فيها، لكن بدراسته الاقتصادية المسبقة لأي مكان ينوي الافتتاح فيه، وبحثه المستمر عن أذواق السكان ورواد المنطقة، تمكن من النجاح أينما حلّ. لكنه لم ينتبه إلى أمر هام واجهه في بداياته، حين منعته الشركة الأميركية “بيني جي.سي”، من استخدام اسم “بينيز” الذي ابتدأ معه مشوار النجاح، حينها كان لا بدّ لريان من خلق فكرة جديدة واسم جديد. إنه “برايمارك”.

البداية الرسمية لـ”برايمارك” كانت من مدينة مانشستر، حين قرر ريان أن يفاجئ السوق الإنكليزية، فأبهر الجميع بحجم متجره الذي وصلت مساحته إلى 14400 متر مربع على ارتفاع ثلاثة طوابق. بعده توسعت الشركة بسرعة كبيرة في بريطانيا، وأخذت تنتشر في كل مدينة. فاستطاع ريان شراء جميع المحلات التي كانت تمتلكها شركة “الغابة الصغيرة” بمبلغ قدره 409 ملايين جنيه إسترليني، وحولها جميعها إلى فروع له، حتى أن البعض ظن أن “برايمارك” إنكليزية المنشأ، بسبب كثرة المتاجر المنتشرة بأنحاء البلاد.

بعد بريطانيا كانت إسبانيا هي هدف ريان في الانتشار أكثر وأكثر، كان ذكيا جدا وحريصا في نفس الوقت، يضع الخطة بتأن وينتظر لتنجح حتى ينتقل إلى ما بعدها، وبعد نجاحه الكبير في كل المدن البريطانية، انتقل إلى مدريد لتأسيس أول فرع له في العام 2006، ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن وصل عدد فروع “برايمارك” إلى 40 متجرا في إسبانيا وحدها. الوجهة بعد إسبانيا بالنسبة لريان لم تكن محددة، بل انطلق إلى عدة دول في وقت واحد، استفاد كثيرا من الشهرة التي نالتها شركته، واتجه إلى كل من بلجيكا وهولندا والبرتغال وألمانيا، وأنشأ المتاجر فيها، و بدأت “برايمارك” تنافس السوق الأوروبية كلها.

وفي تلك الجغرافيا الشاسعة صمد ريان أمام الحروب الممنهجة التي شُنت ضده من كبرى الشركات الرائدة في صناعة الملابس، كيف ولا وهو الذي ابتكر فكرة تسويقية مبدأها “حرق الأسعار”؟

اسم يثير الفزغ

اقتصاد اليوم يقوم على الزبائن والمستهلكين بالدرجة الأولى، ولذلك بات من الضروري أن تعدّل الشركات من استراتيجياتها، وبدلا من الانكباب على جودة المنتج، يجب الالتفات إلى كسب الزبون. وإذا لم تهتم به، فسيفعل غيرك ذلك ويأخذه منك.

ومن هذا المبدأ، ولأنها تهتم بالمستهلك إلى درجة كبيرة، أصبح وجود “برايمارك” في أي سوق يسبب الفزع لأصحاب المحلات المجاورة وقد يجعلها في بعض الأحيان تلتجئ إلى إقفال أبوابها، لأن الزبون تسرقه الأسعار الرخيصة في المرتبة الأولى، والتنوع أيضا في البضائع، فهو يجد في “برايمارك” ما يلبسه في المنزل وخارجه، ولكافة المناسبات.

“برايمارك” تقدم مجموعات متنوعة من المنتجات، مثل ملابس الأطفال حديثي الولادة، واليافعين والملابس النسائية وملابس الرجال لكل الأعمار، وتختص أيضأ ببيع الإكسسوارات والأحذية ومستحضرات التجميل، ولذلك صار يمكن القول إن “برايمارك” تحتضن الأسرة بكل أفرادها وتقدم لها كل ما تحتاجه من كساء.

التسويق الجديد

[ خطة ريان التسويقية تقوم على التنويع في بضائع يربط بينها السعر المنخفض. لم يذهب أبدا نحو شركات الإعلان، بل اعتمد فقط على أحاديث الناس عنه
خطة ريان التسويقية تقوم على التنويع في بضائع يربط بينها السعر المنخفض، لم يذهب أبدا نحو شركات الإعلان، بل اعتمد فقط على أحاديث الناس عنه

لقد وضع ريان خطة تسويقية منذ البداية ولم يتزحزح عنها، فهي قائمة على التنوع في السلع، والرابط بينها دائما هو السعر المنخفض. لم يذهب أبدا إلى شركات الإعلان للتعريف باسم شركته وفروعها الكثيرة، فقد اعتمد على أحاديث الناس عما يقدّمه، لذلك فهي لا تحظى بشهرة عالمية مثل بقية شركات الملابس التي تضع في أولوياتها الإعلانات بمختلف أنواعها، والاعتماد على نجوم الغناء والسينما لتسويق منتجاتها.

طرحت “برايمارك” سلعها عبر عروض لا تقاوم، تجعل من الشخص الذي يكون هدفه من دخول أحد متاجرها الفرجة فقط، مجبرا على الشراء تحت وطأة السعر الجاذب، وخصوصا الأزياء العصرية، وهذا ما عمل على انتشارها بصورة أسرع من الأزياء الأخرى الموجودة منذ عقود طويلة، فهي تجبر المستهلكين على شراء تلك الملابس الجديدة، حتى لو ارتدوها لمرة واحدة، لأن أسعارها الرخيصة لا يوجد مثيلٌ لها في الأسواق والمتاجر الأخرى.

الثراء والتنوع مع أسعار ريان المغرية؛ مثل القميص ذي سعر الـ3 يوروهات، أو الخواتم العشرة التي تكلف فقط مبلغ 2 يورو، كل ذلك دفع المتسوقين إلى تفضيل بضاعته على بقية المتاجر، حتى تحولت “برايمارك” إلى ظاهرة شعبية حقيقية اكتسحت أكياسها البيوت.

مواكب للتطور التكنولوجي

لم تكتف “برايمارك” بالملابس، بل ذهبت إلى مجال تجاري هام جدا مليء بالربح وفي تطور مستمر، هو مستحضرات التجميل، ونافست كبرى الشركات القديمة بذات السلاح وهو رخص الأسعار، مع تقديم جودة جيدة، لكون هذه الصناعة لا يمكن التلاعب بها أبدا وهي تحت مراقبة دائمة من مؤسسات الصحة، لكن الشركة الأيرلندية استطاعت الدخول بقوة في هذه السوق من خلال منتجات كثيرة التنوع تقدم للمرأة كل ما تحتاجه.

ريان حرص على أن يظل ملاحقا للتطور التكنولوجي، ولم يتمسك فقط بالسوق االواقعية، بل اخترق العالم الافتراضي والأسواق الإلكترونية، وكانت شركته من أكثر الشركات انتشارا حول العالم، حتى أن هناك مواقع تسوق عربية تعرض منتجات “برايمارك” لديها.

 البيع والشراء في العالم الجديد يدفع الشركات إلى التواجد في أي مكان لا تستطيع أن تكون فيه على أرض الواقع
 البيع والشراء في العالم الجديد يدفع الشركات إلى التواجد في أي مكان لا تستطيع أن تكون فيه على أرض الواقع

البيع والشراء في العالم الجديد يدفعان الشركات إلى التواجد في أي مكان لا تستطيع أن تكون فيه على أرض الواقع، ودرس “برايمارك” أنها كانت متعاونة جدا مع مختلف الأسواق الإلكترونية، بالإضافة إلى موقعها الإلكتروني التسويقي في الكثير من الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة.

جورج ويستون الرئيس التنفيذي لشركة “أسوشيتد بريتيش فودز” والذي ارتبط تاريخ ريان بأسرته، قال مرة إن ريان سيُذكره التاريخ كأحد أكبر عمالقة تجارة التجزئة، وأكد أنه عندما قام جده غارفيلد ويستون وعمه غالين ويستون بتعيين ريان لتشغيل متجر “بينيز” في دبلن، كانا على يقين من أنهما تعاقدا مع عقل تجاري مدبّر سينهض بالشركة إلى العالمية. وأضاف ويستون “لقد جعل ريان الموضة في متناول الجميع وأصبح إرثه كبيرا جدا”.

بعقله الخلاق تولى ريان إدارة الشركة لمدة أربعة عقود كرئيس تنفيذي، ولكنه في السنوات العشر الأخيرة، تخلى عن سيطرته اليومية على الشركة. غير أنه بقي مرتبطا بالعمل ومستمرا بزياراته المنتظمة للمتاجر والتجول فيها للبحث عن الأخطاء وتفاديها. وكانت واحدة من أكثر مقولات ريان التحفيزية شهرة، تلك التي عاودت الصحافة العالمية نشرها عشية وفاته “يجب أن نتذكر من نحن، وأن نتحدى أنفسنا لنكون على أفضل ما نستطيع، وندفع الحدود طوال الوقت وألا نكون راضين عند أي نجاح”.

التغيير الكبير الذي قدمه ريان لم يقتصر على السعر والجودة والتنوع، بل إنه تجاوز ذلك كله ليصل إلى التفكير في عادة التسوق ذاتها، بحيث أصبح رواد “برايمارك” يتمتعون بثقافة مختلفة، تقوم على التجول في مكان واحد واسع، بدلا من تضييع الوقت أمام واجهات المغازات (الفترينات) في الخارج، وهو انقلاب جذري في فكرة التسوق من أساسها التي غالبا ما ترتبط بالتسكع، لقد عرف ريان حقا كيف يصنع مستهلكه بيديه. مستهلك يذهب إلى هدفه مباشرة دون أن تغريه العلامات التجارية، التي روّج لها عالم الإعلانات طويلا وكرسها في أذهان الناس حتى باتوا يقبلون بأسعارها دون أن يدققوا في جودتها، وهو نوع من الإذعان في ما بين طرفي تلك المعادلة؛ البائع المبتكر والمشتري الذي صار بفضل ريان ومولوده “برايمارك” متحررا أكثر من أي وقت مضى.

9