آرتير لاَرُو لـ"العرب": كتبي تشبه الفزّاعات والإبر والقنافذ وقراؤها مازوشيون

الحرب الروسية – الأوكرانية خلقت آراء ثقافية متباينة حول ما تشهده أوروبا من تصدع، وقليل هم الكتاب الذين تمكنوا من مقاربة ما يحدث من زوايا تاريخية أعمق، وخاصة منهم أولئك الكتاب المتمردون بأصواتهم المختلفة وتجاربهم التي تجعل من فعل الكتابة فعلا خارج المألوف مثل الكاتب الفرنسي آرتير لاَرُو. “العرب” كان لها هذا الحوار مع لارو الكاتب المثير للجدل حول رؤاه الأدبية وروايته الصادرة مؤخرا.
أصدر آرتير لاَرُو وهو كاتب فرنسي من مواليد سنة 1984 رواية في شهر مارس 2021 تحت عنوان “قُطْرُ أليخين”، ويبدو أنّها تُرجمت إلى العربيّة تحت عنوان “أليخين على رقعة الشّطرنج”.
يبدو عنوان النّسخة العربيّة -إن وجدت فعلا- غريبا ولستُ مقتنعا بنتيجتها كفعل ترجمة وإبداع في الآن ذاته، وذلك لأنّ على مترجم عمل حول الشّطرنج أن يكون -بالضّبط كمترجم الشّعر- حاملا لحسّ وربّما لهمّ شطرنجيّ.
صدرت نسخة الجيب لهذه الرّواية خلال شهر أفريل 2023 وتَمَكَّنْتُ بهذه المناسبة من إجراء حوار مع آرتير لارو حول رؤاه في قضايا ثقافية وأدبية.
الكتابة والحرب
العرب: لم تبلغ الأربعين بعد، ويبدو أنّك عشت عدّة حيوات بين فرنسا وروسيا، وكتبتَ ثلاثة كتب مشهورة وعشتَ العديد من المغامرات، أبرزها استبعادك من جامعة سانت بطرسبورغ الحكوميّة حيثُ قُمْتَ بتدريس الأدب الفرنسي لمدّة أربع سنوات.
كيف تقدّم نفسك، وكيف تقدّم رحلتك، وحتّى حياتك العمليّة، لقرّائك أو للقرّاء المحتملين الّذين يرغبون في اكتشافك واكتشاف أعمالك؟
آرتير لاَرُو: أنا روائي أعملُ متخفيّا. أنا نوع من الجاسوس أو المخرّب أو مقاتل المقاومة أو الفايروس أو العنصر الحرّ. أدبي مُنَاوَرَةٌ، بالمعنى العسكريّ للكلمة، أي أنّه يتنفّس الديناميكيّة والحركة، والحماسة والخيال، بهدف مزعوم هو اختراق خطوط العدو، وتفجير الأطر، وتحدّي السّلطات والحدود. لقد تحدّثَ فولتير عن بعض كتبه على أنّها “قنابل محمولة” (“الرّسائل الفلسفيّة”)، وأنا أفهمُ ذلك.
العرب: يبدأ كتاب “الذّهاب إلى الحرب” بهذه السّطور “لو كانت هذه القصّة من تأليفي لأعطيتها لصديقي تامريكو بامريكو كفاتشادزه. وبما أنّ الأمر ليس كذلك، فقد أُعِيدَهُ إلى مجموعة فُويْنَا، وأعتذرُ عن سرقته منها. فوينا تعني الحرب باللّغة الرّوسية. بدا لي من الصّواب أن أترجم كلمة حرب بكلمة حرب، لأنّ الحرب المعنيّة ليس لها أيّ شيء خاصّ بالعالم الرّوسي. وهذا ينطبق في كل مكان ويجب أن يُسْمَعَ بوضوح. عشتُ معها 91 يومًا في ظروف مشابهة لتلك الّتي تليها”.
بعد عشر سنوات، هل كنت ستكتب نفس السّطور؟ هل ستغيّر الحرب وغزو روسيا لأوكرانيا هذه البداية التي هي بمثابة إهداء ملتزم؟
آرتير لاَرُو: لا، لن أغيّر كلمة واحدة. أوّلاً، لأنك عندما تكتب فهذه هي اللعّبة، وثانياً، لأنّ”الذّهاب إلى الحرب” هو كتاب شاهد. لقد شهدت هزيمة المجتمع المدني الرّوسي المستنير (المثقّفين) في المعركة الّتي خاضها ضدّ نظام فلاديمير بوتين. وبعد مرور عشر سنوات تمّ تصدير العنف الدّاخلي، أي العنف الذي تمارسه الدولة ضدّ سكّانها، إلى دولة أخرى من المفترض أن تكون تابعة وقابلة للكسر (يقول الرّوس “أخ” أو “روسي صغير” للإشارة إلى الأوكرانيّين، و”أوكرانيا”، اشتقاقيّا، تشير باللّغة الرّوسية إلى الزّاوية، والهامش، والحدود). إنّها نفس الحرب، لكنّها مستمرّة ومصدّرة. إنّها حرب النّظام ضدّ الواقع.
أسلوبُ عمل لارو الرّئيسي هو القسوة المرتبطة بالعزلة والشك والامتناع عن ممارسة الجنس والقراءة والصّيام والمشي والتّجديف
“الذّهاب إلى الحرب” كان لا بد من كتابته، لأنّه كان من الضّروري أن نُعَبِّرَ عن هذه اللّحظة، لحظة شعب يفقد السّيطرة على مصيره. لذلك كان من الضّروري، في الواقع، “الذّهاب إلى الحرب”، لجعل هذه الحرب حربنا الخاصّة لأنّها حرب الجميع، وإذا كانت تميل إلى فرض نفسها، أعتقدُ أنّها لن يتمّ الفوز بها بشكل نهائيّ.
العرب: تمّ استعارة تصدير “الذّهاب إلى الحرب” من المغنّي إيجور لِيتُوفْ. لماذا هذا الاختيار؟ هل هي طريقة لتكريم فنّان أُومْسْكْ الّذي توفّي بنوبة قلبيّة عام 2008 عن عمر يناهز 43 عاما؟ فهل هذه أيضا طريقة لرفع الحجاب عن جزء من الثّقافة الرّوسية غير معروف لدى الجمهور الأوروبي والغربي بشكل عامّ؟
آرتير لاَرُو: أنا معجب بالشّاعر والموسيقي إيجور ليتوف. ولذلك فإنّ السّؤال الّذي طرحه، في بداية عملي، يبدو لي مناسبا جدّا للوضع: ليلة في سانت بطرسبورغ حيث كانت الشرطة تطارد المنشقّين. “من هو الفوضوي الرّئيسي؟ والجاسوس الأكثر مكرا؟”.
في الواقع، يسعدني أن أُقدّم عملاً غير معروف خارج روسيا. خاصّة وأنّ ليتوف يجسّد بشكل جيّد نوع الوحشيّة الشّعريّة الّتي يعرف هذا البلد، في رأيي، كيف يولّدها.
أخيرًا، أعتقدُ على نطاق أوسع أنّ هذا جزء من عملي الإضافي. لا شكّ أنّ هناك شيئا من المهرّب في الكاتب. لقد استمعتُ إلى جيري موليجان بفضل جي بي مانشيت، وموريس رافيل بفضل جان إيشنوز، وعبدالله إبراهيم بفضل جان كلود إيدزو. الأدب ليس أصمّ.
رواية حداثية
العرب: “قُطْرُ أليخين” رواية نُشرت في السّلسلة “البيضاء” لمنشورات غاليمار سنة 2021، أي قبل عامين من “أورلوف لَيْلاً”، أُعيد نشرها في سلسلة الجيب “فوليو”. كيف تفسّرُ هذا النّجاح؟ هل يرجع ذلك إلى لعبة الشّطرنج الّتي، بطريقة ما، تثيرُ اهتمام الجمهور بقدر ما تبهرهم؟
آرتير لاَرُو: مثل روسيا، لعبة الشّطرنج محيّرة ورائعة، ولكن قبل كلّ شيء، فهي مُخِيفَةٌ. نقول على الرّوس بأنّهم صارمون ومعقّدون وعنيفون. لديّ انطباع بأنّ كتبي تشبه بالتّالي إلى حدّ ما الفزّاعات أو السّموم أو الإبر أو القنافذ، وأنّ القرّاء يستحوذون عليها لأسباب مازوشيّة تقريبًا. جيّد جدّا. هذا يناسبني للغاية، فليستمرّ ذلك.
لا أستطيعُ أن أشرح نجاح “قُطْرَ أليخين”، وإذا حاولتُ سأخدع نفسي بالأكاذيب، وسأحاول إعادة إنتاج هذا النّجاح وسيصبح ذهني ميكانيكيّا، تافها، صغيرا، ضيّقا، وبالتّالي حقيرا.
العرب: يمكن اعتبار رواية “قُطْرَ أليخين” بمثابة رواية متعدّدة الأشكال والأساليب والأصوات، فهي تجمع بين التّحقيق التّاريخي والاستبطان وسعة الاطّلاع الموسوعي والتّجربة الشخصيّة.
آرتير لاَرُو: هي قصّة لاعب غير عادي يتمّ التّلاعب به، أي أنّ الظّروف التّاريخية الاستثنائيّة سوف تلهو به ثمّ سوف تلتهمه. كان من الضّروري تجسيد هذه “الظّروف”، مهما كانت متنوّعة، ومن هنا جاءت اختياراتي السّرديّة: تمزّقات، وتنوّع النّغمات، والأماكن، والسجلاّت، وما إلى ذلك.
أردتُ أيضًا أن أروي قصّة جيل رائع، جيل أليخين، الّذي يُشَكِّلُ بالنّسبة إلي الجيل الأخير من لاعبي الشّطرنج الفنّانين، خارج أي إشراف إداري أو حكومي: روبنشتاين، سبيلمان، ريتي، كابابلانكا، تارتاكوفير، وما إلى ذلك. وبالتّالي يُمْكِنُ أن تجسّد كتابة رواية إلى حدّ ما الإبداع الّذي كان لديهم. أردتُ أن أكون كاتبا فائقا للحداثة.
العرب: على ماذا تعمل في الوقت الرّاهن؟ كيف تشتغل بشكل عامّ؟ من هم كتّابك المفضّلون؟
آرتير لاَرُو: أنا بصدد كتابة رواية، ويجبُ أن أنتهي منها في الخريف (2024). إذا لم أنجح، سأصابُ بالجنون. أسلوبُ عملي الرّئيسي هو القسوة المرتبطة بالعزلة والشكّ والامتناع عن ممارسة الجنس والقراءة والصّيام والمشي والتّجديف (ثلاث جلسات تدريبية في الأسبوع).
كُتّابي المفضلون كثيرون جدّا، ويشكّلون حشدا كبيرا خلفي، لكن فرانسوا فِييُّونْ، جي بي مانشيت، جول باربي دي أوريفيلي، هنري بيرجسون، مارغريت دوراس، لويس أراغون، دبليو جي سيبالد، روبرتو بولانيو، جيم طومسون، بولين كلاين، مارتن هيدغر، وماريانا إنريكيز، وجان إشينوز، ونيكولاي غوغول، وغيّوم أبّولينير من بين الأشجار الّتي تخفي الغابة.
مجموعة أرواح
العرب: لو كان عليك أن تبدأ من جديد، ما هي الاختيارات الّتي ستّتخذها؟ لو كان عليك أن تُجسّد كلمة أو تتجسّد في كلمة، في شجرة، في حيوان، أيّ منها ستختار أن تكون في كلّ مرّة؟ كتبتَ عن أليخين، لكن من هو بطلك المفضّل؟ أخيرًا، إذا كان عليك اختيار نصّ لك سيترجم إلى لغات أخرى، العربيّة على سبيل المثال، أيّ واحد ستختار ولماذا؟
آرتير لاَرُو: اخترتُ الرّواية كي لا أضطرّ إلى اختيار حياة واحدة فقط، بل أجمعها كلّها تقريبا. لديّ مجموعة صغيرة من الأرواح، نعم. في بعض الأحيان لا أعرف أيّ واحدة هي لي بعد الآن. تلك الّتي لا أستطيعُ تجربتها أو حتّى رسمها، أَنْسِبُهَا إلى إحدى الشّخصيات. نفس الشّيء بالنّسبة إلى الحيوانات والأشجار والكلمات التي تريد منّي أن أختارها: يمكن أن أكون ثعلبًا للمكر وفنّ الإخفاء، لَبْلاَبًا أو وستاريّة لفنّ التسرّب، كلمة “فكرة” خفيفة جدّا، كلمة قابلة للذّوبان وهي حرّة جدّا.
بطل الشّطرنج المفضّل لديّ هو رودولف سبيلمان، سيّد التّضحية. القُطْرُ يأتي أوّلا منه ومن مصيره المأساوي.
تُرْجِمَتْ رواياتي إلى سبع لغات، بما في ذلك اللّغة العربيّة.
الكاتب الجاسوس
هذا الكلام جميل؛ جميل لأنّ تجربة آرتير لاَرُو الأدبيّة ثريّة ومعقّدة. هي ثريّة لأنّها متعدّدة الأوجه ومعقدة لأنّها تماما كالشّطرنج مزيجٌ بين الأبيض والأسود، بين النّور والظّلام الحالك، بين الحقيقة والخيال، ربّما كذلك الكذب لأنّ ما عاشه في روسيا وأسباب طرده من وظيفته كأستاذ فرنسيّة في جامعة سانت بطرسبورغ الحكوميّة يجعلاننا نُفَكِّرُ مرارا وتكرارا في حقيقة الأمور.
ألا يمكن أن يكون الكاتب جاسوسا على طريقة المسلسل الفرنسي “مكتب الأساطير” للسّينمائي إيريك روشان؟ لم لا، أَلَمْ يَدْرُسْ البطل الملقّب بـ”مَالُوتْرُو” (ماتيوكاسّوفيتز) الشّطرنج لينال من الأمير الدّاعشي فرنسي الولادة “توفيق بومازة” المسمّى بـ”توفيق أزرق داكن”؟ كان ذلك سنة 2016 في الحلقة الأخيرة من الجزء الثّاني لهذا المسلسل الشيّق والمرعب والذّكي معا.
أوليس اسم هذا الإرهابي الخطير مستوحى من “دِيبْ بْلُو” الكمبيوتر الّذي نكّل بالبطل غاري كاسباروف في نيويورك بين 3 و11 مايو 1997؟ لا صُدَفَ هنا، أبدا، وكأنّ العالم ينبني مربّعا تلو الآخر وقطعة بجانب أختها وحركة تلو سابقاتها كما هو الحال في لعبة الملوك.
الأجملُ أنّ آرتير لاَرُو قسّم كتابه إلى ثلاثة أبواب كبيرة تُشبهُ كثيرا الشّاهدة الّتي ذكرنا لألكسندر أليخين: الافتتاحيّة وتشمل عشرة فصول مرقّمة من واحد إلى عشرة، فوسط المقابلة الّتي تحتوي كذلك على عشرة فصول من رقم أحد عشر إلى رقم عشرين، فنهاية المباراة ذات الاثنى عشر فصلا من الواحد والعشرين إلى الثّاني والثّلاثين.
وفي هذا التّقسيم قراءة للعبة الشّطرنج ونظرة كاملة للعالم. وكأنّها نظرة نصفيّة من خلالها يرى آرتير لارو أبطاله وشخوصه والتّاريخ عبر كأس نصف مملوءة ونصف فارغة، أو ربّما هي وردة تحمل العبق والشّوك في الآن ذاته.