اليسار التونسي منتج للبدائل ولم يتنصل من واجباته الوطنية

تونس - تمر تونس في الفترة الأخيرة بحالة من الارتباك الاقتصادي والسياسي، لا سيما مع توسع هوة الخلافات بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة من جهة، وبين هذه الأخيرة والمعارضة من جهة أخرى، على خلفية سياسة التقشف المطروحة لتجاوز الوضع المالي الخطير في البلاد، ووصل الرفض إلى حد تهديد الاتحاد العام التونسي للشغل بالإضراب العام يوم 8 ديسمبر المقبل.
وترفض المعارضة، من بينها كتلة الجبهة الشعبية، المشروع المطروح. وقد ردت الجبهة اليسارية على اتهامات الحكومة لها باتباع سياسة الرفض لمجرد الرفض بتقديم حلول أخرى ترى أنها أفضل من فكرة المساس بالرواتب وإرجاء الزيادات للموظفين، ما قد يضاعف من حالة الاحتقان في البلاد.
تحدث عن بعض هذه المقترحات حمة الهمامي، النطاق الرسمي باسم الجبهة الشعبية، وهي ائتلاف سياسي يضم 11 حزبا وتجمعا يساريا وقوميا وبيئيا وبعض المستقلين، مشيرا في حواره مع “العرب”، إلى أن الجبهة قدمت مشروعا كاملا وجديدا لإخراج تونس من أزمتها وإعادة بناء اقتصادها بما يحقق المطالب التي رفعها الشعب في ثورته وفي مقدمتها توفير الشغل لمستحقيه.
يؤسس هذا المشروع، وفق حمة الهمامي، لمنوال تنمية آخر، وطني، يقطع مع النموذج القائم على التبعية والاستثمار في قطاعات هشة كالسياحة وغيرها من القطاعات الخدماتية. ويتوجه، بقيادة الدولة، التي عليها أن تلعب الدور الأساسي في التنمية إلى الاعتماد أولا على مقدرات البلاد البشرية والمادية والقطع مع سياسة التداين للخارج مقابل زيادة الاستثمار في القطاعات الحيوية.
وينفي حمة الهمامي الادعاءات بأن الجبهة الشعبية “لا تعرف سوى الرفض دون تقديم الحلول والبدائل”. ويعتبرها من “الأكاذيب التي ترددها أحزاب الائتلاف الحاكم ووسائل الإعلام التي تخدم في ركابها بغرض التشويه والإيهام بأنه لا بديل اليوم في تونس لمواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية غير سياسة التقشف التي لا تعني سوى تعميق الفقر والبؤس لشعب قام بثورة لتحسين أوضاعه المادية والمعنوية وصيانة سيادة بلاده وحماية استقلالية قرارها في ما يتعلق باختياراتها التنموية”. وأوضح أن الجبهة الشعبية قدمت حزمة من الإجراءات لتوفير الموارد الضرورية للدولة للخروج من الأزمة الحالية ووضع تونس على سكة النهوض. وتتمثل هذه الإجراءات في:
* تعليق تسديد المديونية لمدة ثلاث سنوات وسن ضريبة استثنائية بـ1 في المئة على الثروات الكبرى المصرح بها وغير المصرّح بها.
* مقاومة التهرب الجبائي بما يمكّن الدولة مباشرة من جمع المبالغ الكبيرة التي لم تسدّد لها خلال السنوات الأخيرة من جهة وإخضاع نسبة هامة من القطاع الموازي للرقابة الجبائية من جهة ثانية.
* وضع منظومة جبائية عادلة.
* مقاومة التهريب عبر تشديد المراقبة الجمركية والحدودية.
* تغيير الأوراق النقدية في أسرع وقت ممكن وحماية الدينار التونسي بالتراجع عن إجراءات تحريره.
* مراجعة السياسة البنكية مراجعة جذرية كي تكون في خدمة التنمية الحقيقية.
* تغيير مناهج التعليم والتكوين المهني.
الجبهة ترد على اتهامات الحكومة لها باتباع سياسة الرفض لمجرد الرفض بتقديم حلول ترى أنها أفضل من المساس بالرواتب وإرجاء الزيادات
ويرى حمة الهمامي أن هذه الإجراءات وغيرها يمكن أن توفر موارد هامة للدولة وتغنيها عن التداين والتفريط في سيادة الوطن وتمكنها من استثمار مباشر في قطاعات ذات مردودية عالية وطاقة تشغيلية كبيرة.
وتعتبر هذه المقترحات الصادرة عن اليسار في مثل هذه الظروف الاستثنائية التي تعيش على وقعها البلاد، نقلة نوعية في خطاب هذا التيار السياسي الذي فشل في السنوات الأولى للثورة في التسويق لنفسه كفاعل سياسي يحظى بالدعم والقبول الشعبي، خصوصا وأن الاعتراض هذه المرة مرفق ببرنامج اقتصادي قيل إنه تمت بلورته بالتعاون مع عدد من الخبراء والمختصين.
وكرر حمة الهمامي رفضه لقانون المالية الجديد، مشددا على ضرورة تجنب الاصطدام بالطبقة المتوسطة والفقيرة، ومشيرا إلى أن “هذا القانون يضرب في العمق مصالح الطبقات والفئات الكادحة والشعبية وحتى الوسطى إذ أنه يحمّلها وحدها فاتورة الأزمة”، عبر جملة من الإجراءات أهمها:
* تجميد الأجور (عدم تفعيل زيادات مقررة للسنوات الثلاث القادمة وموقّع عليها من الحكومة).
* تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية والعمل على التخفيض في عدد الموظفين وأعوان القطاع العام إلى حدود النصف خلال نفس المدة.
* الترفيع في الضرائب والزيادة في الأسعار سواء بصورة مباشرة أو من خلال الزيادة في نسب القيمة المضافة.
مقابل هذه الإجراءات، يشير الهمامي إلى أن قانون المالية لا يتخذ أي إجراء جدّي لجعل أصحاب الثروات يدفعون ما عليهم لصناديق الدولة حتى تتوفر لها الموارد الضرورية، يعني هنا المتهربين من دفع الضرائب والمهرّبين (الاقتصاد الموازي يمثل أكثر من نصف الناتج المحلي الخام) والفاسدين الذين تركت لهم الحكومة المجال للمزيد من الاستثراء على حساب الوطن والشعب.
ويضيف “الائتلاف الحالي هو الممثل بامتياز لمصالح هذه الفئات التي تنهك البلاد وتدمّر حياة غالبية الشعب والمجتمع، وهو ما يفسّر المعارضة الواسعة التي يلاقيها مشروع قانون المالية الجديد الذي يعدّ أخطر ما عرفت بلادنا منذ سقوط النظام السابق. ومن البديهي أن تعمل الجبهة الشعبية على تأطير هذه المعارضة العامة والشاملة لتجنيب الشعب المزيد من الأتعاب”.
رفض للاقتراض الدولي
عندما استلمت حكومة يوسف الشاهد مقاليد إدارة البلاد من حكومة الحبيب الصيد كان الوضع الاقتصادي حرجا، حيث بلغ العجز العام 6,5 في المئة من إجمالي الناتج الداخلي. واضطرت البلاد للموافقة في مايو الماضي على خطة مساعدة جديدة من صندوق النقد الدولي بقيمة 2,6 مليار يورو لمدة أربعة أعوام.
|
لكن، مثل هذه الحلول المطروحة لا تلاقي قبول المعارضة اليسارية، في تونس، حيث ينظر اليسار إلى مؤسسات الإقراض الدولي باعتبارها هيئات استعمارية تكرس الإمبريالية الرأسمالية. وفي رده على سؤال حول موقفه من لجوء تونس إلى البنك الدولي، لم يبتعد حمة الهمامي كثيرا عن هذا النهج. ويقول الناطق الرسمي باسم حزب العمال، إنه “يعارض مثل هذا الإجراء لأنه يرى فيه مجرد تكريس لإملاءات المؤسسات المالية الدولية (صندوق النقد الدولي) بما تعنيه من انتهاك لسيادة البلاد وإخضاعها لمشيئة الشركات والدول الرأسمالية الكبرى”، مضيفا “عندما رفضت الجبهة المشاركة في هذه الحكومة فذلك لأنها لا تريد أن تكون شريكة في تنفيذ برنامج هذه المؤسسات المالية الدولية”.
مأزق الائتلاف الحاكم
يرجع حمة الهمامي أزمة الحكومة التونسية ومأزقها الاقتصادي والسياسي إلى أن الائتلاف الحالي أعجز من أن يفكر في اتخاذ مثل هذه الإجراءات الاستعجالية وتنفيذها التي تطرحها المعارضة لتجنبها المواجهة مع مافيات الفساد والتهريب والتهرب الجبائي التي تمول مكوناته وتسيطر على عدد لا يستهان به من أعضاء البرلمان ووسائل الإعلام.
ويضيف “هنا يتمثل الفارق الجوهري بين الجبهة الشعبية من جهة والائتلاف اليميني الحاكم من جهة أخرى، فالجبهة الشعبية تطرح حلولا لفائدة الوطن والشعب، بينما الائتلاف الحاكم لا يفكر إلا في الحفاظ على مصالح فئة محددة”.
وعن تقييمه لأداء الحكومة الوطنية يرى أنها ليست حكومة وحدة وطنية، بل حكومة النداء والنهضة مع إضافة بعض الأحزاب الصغيرة والأشخاص للديكور فحسب. ويعتبر أن تحالف النداء والنهضة، أو تحالف اليمين الليبرالي واليمين الإخواني المحافظ الذي أفرزه ضغط القوى الخارجية، الغربية أساسا، هو “أخطر ما ابتليت به تونس بعد انتخابات 2014″، وأنه “عزز جانب قوى الثورة المضادة وأغرق البلاد في أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية حادة. فكل شيء يبدو معطلا تقريبا وهو ما يشهد به كل مراقب لتطور الأوضاع في تونس”.
ويضيف أن “حكومة الشاهد، هي حكومة يمينية جيء بها لتنفيذ إملاءات صندوق النقد الدولي، وتنفيذ سياسة تقشفية، وهي اليوم في مأزق بسبب هذه السياسة، ولم يبق إلا رئيس الدولة الذي عين الشاهد في منصبه في مساندتها، فالاتحاد العام التونسي للشغل يعارضها وهو يهدد بالإضراب العام، والمحامون والصيادلة غاضبون وقد نزلوا إلى الشارع، وحتى اتحاد الأعراف غير راض، وكذلك عدة أطراف في الائتلاف الحاكم لا ترحب بسياستها وإذا ظلت حكومة الشاهد متمسكة بمواقفها الحالية بخصوص الميزانية وقانون المالية لعام 2017 فمن الصعب أن تعمر طويلا”.
دور اليسار
يرى حمة الهمامي أن مشروع قانون المالية يعدّ أخطر ما عرفت بلادنا منذ سقوط نظام بن علي. وفي ظل هذا الوضع، من البديهي أن تعمل الجبهة الشعبية على تأطير هذه المعارضة؛ وهذا يحيلنا إلى استحضار المشهد اليساري في تونس منذ ثورة 14 يناير 2011، والتي مثلت منطلقا أعطى روحا جديدة في اليسار التونسي الذي كان يختنق على وقع القمع. استعاد اليسار التونسي نشاطه على الساحة السياسية، وإن لم يكن بنفس زخم سنوات التأسيس الأولى وتأثير الحركة الطلابية وحركة الطليعة. وبقي اليسار نخبويا يمتلك قاعدة عريضة من الطبقة العمالية (الموظفون بالأساس) والمثقفين، لكن كثيرين يرون أنه بقي هامشيا بعيدا عن المواطن البسيط، قد يكون يدافع عنه لكن بشعارات بعيدة عن أرض الواقع الصعب.
قد تكون بعض ملامح هذه الصورة مازالت موجودة، ويدعم مروجوها مواقفهم بغياب اليسار عن الصف الأمامي للحكومات التي تشكلت وبقائه في صف المعارضة. وقد كان اليسار سجل موقفا لافتا حين ترشح حمة الهمامي للانتخابات الرئاسية في 2014، وفاز بالمركز الثالث، كما لم يكن معارضا من البداية للتحالفات، لكنه عاد واختار صفوف المعارضة بعدما حتمت نتيجة الانتخابات التحالف بين البورقيبيين والإسلاميين.
تحدث حمة الهمامي، عن واقع اليسار اليوم ودوره في ظل ما تشهده تونس اليوم، مشيرا إلى أن هناك صورة مغلوطة يتم الترويج لها وأن الجبهة الشعبية، عكس ما يقال عنها، تتطور وتتعزز لحمتها السياسية والتنظيمية.
ويرفض الناطق الرسمي باسم الجبهة الانتقادات التي تعرض لها ائتلاف اليسار في مجلس نواب الشعب إبان تشكيل حكومة الوحدة الوطنية بسبب رفضها الانضمام إلى الائتلاف الحاكم وتفويتها فرصة المشاركة في الحكم واتهام البعض لها بالتمسك غير المجدي بالرفض. ويقول “نحن معتادون على حملات التشويه التي تطلقها القوى الرجعية والمعادية للثورة التي تعجز عن مواجهتنا بالبرامج والحجج؛ أما أشباه اليساريين الذين يوظفون من وقت لآخر لانتقادنا لأننا نعارض الائتلاف الحاكم ولا نهادنه ولا نشارك في حكومته، فما عليكم إلا النظر إلى حالتهم اليوم، فقد عادوا إلى جحورهم والتزموا الصمت”.
وعن مشاركته في الانتخابات الرئاسية سنة 2014 وتقييمه للخسارة وما أحدث الفارق بينه وبين السبسي والمرزوقي يعتبر حمة الهمامي أن “المرتبة الثالثة التي حصل عليها في الانتخابات الرئاسية هي نتيجة إيجابية قياسا بموازين القوى في البلاد وحجم قوى اليمين وإمكاناتها المادية والدعم الخارجي الذي تلقاه، إضافة إلى حالة الوعي السياسي العام في المجتمع والذي لا يزال محدودا”.
ويقول “بقطع النظر عمن سيترشح في المرة القادمة فنحن نستثمر تلك النتيجة الإيجابية لتوسيع تأثير الجبهة الشعبية، ولا ننسى أن أمامنا انتخابات بلدية وهذه الانتخابات ستكون لها أهمية كبيرة وانعكاس مؤكد على المشهد السياسي في تونس”.
لا مستقبل للإسلام السياسي
ترى النخب الفكرية والسياسية أن أحزاب اليسار خيبت آمال غالبية التونسيين في الدفاع عن قيم الجمهورية ودولة المواطنة وثقافة التسامح في المجتمع وجردتها انهزاميتها من دورها في الوقوف ضد جماعات الإسلام السياسي. وبدا أن اليساريين، بعد صدمة انتخابات 2011، باتوا مقتنعين بأن الإسلام السياسي لن يجرف فقط أحلامهم، التي تعود إلى العشرينات من القرن الماضي مع تأسيس أولى خلايا الحزب الشيوعي التونسي في 18 ديسمبر 1921، وإنما سيجرف أيضا مكاسب الحداثة التي تحققت في ظل دولة الاستقلال.
ولعل هذا ما يفسر تأسيس الجبهة الشعبية التي تضم 11 حزبا يساريا في خطوة قال مراقبون إنها تؤشر على تحول تاريخي في مفهوم العمل السياسي لدى اليسار، تحول يحمل في طياته الاستيقاظ من الأحلام الطوباوية واستعداء الوضع القائم كما يحمل وعيا بأن القبول بشروط الإسهام في الشأن العام هو المخرج الآمن من التهميش إلى صناعة التاريخ، خاصة وأن اليسار، وكما قال حمة الهمامي في حديثه مع “العرب”، يؤمن بأن”الشعب التونسي هو الذي سيحدد مصير حركة النهضة والإسلام السياسي في تونس وما شابه ذلك من الحركات اليمينية واليمينية المتطرفة المغلفة بالدين”.