سعدي عباس بابلي: ثقافة العراق ضحية الفساد والتطرف الديني

يحذّر الأكاديمي والتشكيلي العراقي سعدي عباس بابلي من “أفول ثقافي” يهدد المجتمع العراقي نتيجة طغيان الأيديولوجيا على المعرفة وهيمنة التطرف والكراهية. وينبّه في مقابلة مع “العرب” إلى خطر الأدلجة على الفنون لأن التعبير الجمالي يفقد روحه حين يخضع للقولبة السياسية، أو تحيط به مناخات الاحتقان والتوتر، فالمبدع يحتاج لسلام حقيقي واستقرار اجتماعي، ولا يستطيع الإنجاز في أجواء التشدد والقبلية والطائفية وترييف المدن.
وهذا الانسداد الثقافي، وفق بابلي، يعوق إنتاج الفن وتسويقه رغم ما للفنون العراقية من سمعة متميزة في المنطقة، فقد كانت بغداد موئلاً ثقافياً وقبلة للفنانين والمبدعين.
ويرى بابلي أن الفنون بأنواعها؛ التشكيلية كالرسم والتصميم والنحت، والدرامية والمسرحية والاستعراضية، والموسيقى والشعر والسرد، تُسهم بكثافة في تنمية رأس المال الثقافي، فقدرات الإبداع والخلق والابتكار تضاعف الثروة الناعمة للمجتمع، وهي بمثابة عملية إنتاجية مستمرة للمنجز الثقافي والقيمة الحضارية المضافة.
ويعتقد الفنان العراقي، وهو رئيس قسم الفنون التشكيلية بجامعة دهوك في كردستان العراق، أن بلده لم يتمكن من استثمار موارده الثقافية، فيما استقطبت مجتمعات المهجر كفاءاته الفنية والثقافية واستفادت منها.
ويؤمن بابلي، وهو تشكيلي متمرّس جاب بمعارضه أرجاء المعمورة، بأن عالمية الإبداع الثقافي تقتضي التحرر من العصبوية والفصل العنصري بين الثقافات. ويدعو إلى إبعاد الفن عن السياسة والدين، لأن زجهما في الصناعة الثقافية يحوّلها من الخلق الجمالي إلى التوظيف الأيديولوجي للمواهب.
الفنان العراقي ينتمي إنسانياً لثقافته الأم، لأن صلة الإبداع وثيقة بالحاضنة الأولى، والفن، برأيه، يرتبط بالهوية الثقافية للفنان
نزيف إبداعي
يعتقد الفنان المنتمي للجيل الثاني من رواد الحركة التشكيلية العراقية، في حديثه لـ”العرب”، أن بلده يعاني من “حرمان ثقافي” حاد، يعزوه إلى ظاهرة نزيف ثقافي وهجرة مبدعين بدأت في تسعينات القرن العشرين، واستمرت لليوم بفعل تردي الأوضاع السياسية والأمنية الراهنة، ومناخات الكبت والإكراه والتشوّهات الاجتماعية التي تحاصر الحركة الثقافية والفنية.
ويفيد بابلي، الذي أقام عشرات المعارض الشخصية المحلية والدولية، أن حراكاً ثقافياً عراقياً واسعاً بدأ من خمسينات القرن الماضي إلى منتصف ثمانيناته، وكان مدعوماً من اتجاهات متعددة كالطبقات الوسطى والعليا في المجتمع والحكومات، قبل أن يتراجع الوضع الاجتماعي بفعل الحروب والحصار الدولي على البلاد.
ويؤمن الأكاديمي العراقي بأن وعي صناع القرار مهم للتلاقح الثقافي، محلياً بين مكونات المجتمع ودولياً بين الشعوب، لافتاً لما أفرزه النموذج الشمولي في الصين والاتحاد السوفييتي السابق من انغلاق ثقافي وعزل واستبعاد للمبدعين. ويضيف أن الأنظمة الثورية تفرض “واقعية أيديولوجية” على الفن التشكيلي، كما حصل بعد الثورة الروسية التي كرّست “الواقعية الاشتراكية” كأسلوب فني أحادي؛ بينما الديمقراطيات الحديثة تعلي من قيمة الحرية أساساً للنهضة الفنية، مشيراً إلى التلقائية اللونية والتعبيرية التي أتاحتها الحريات الثقافية في أميركا.
ويبيّن بابلي أن الفن جزء من منظومة متكاملة، سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، ولا يمكن أن يزدهر أو يتقدم في سياق من الإرغام الثقافي والقمع والتكفير والقسرية الدينية.
ويحذّر التشكيلي العراقي من أيلولة الاحتباس الديمقراطي والصراعات السياسية في المنطقة العربية، وصعود النزعات السلطوية والظلامية والطائفية، إلى فناء ثقافي وتجريف جمالي وتصحّر إبداعي وتزييف للوعي الفني، متابعاً أن الفنان إذا أصبح أداة دعائية للأيديولوجيا فسيموت بموتها، لأنه صداها وجزء من خطابها التعبوي، أما الفنان الحرّ المستقل فخالد بخلود فنه وإبداعه.
هجرة الريشة
يؤكد ضيفنا، الذي عاش مغترباً لسنوات يتنقل بفنه بين العواصم، أن تسعينات القرن العشرين شهدت هجرة الفن التشكيلي الرافداني إلى الأردن الذي احتضن مبدعينا، ما أسهم في تنمية الحياة الفنية والثقافية هناك، فظهر جيل من الفنانين الأردنيين.
|
ويؤشر بابلي، العضو في جمعيات فنية دولية، على ضعف المؤسسات الثقافية العراقية اليوم، وتلاشي النشاط الفني وإغلاق صالات العرض والمتاحف، وكثرة القيود الأمنية والاجتماعية التي تكرّس الاختناق الثقافي وتكبّل الفنان والمثقف. كما ينتقد غلبة السذاجة على الإعلام الذي لا يهتم بتنمية الذائقة الثقافية أو تطوير الحس الجمالي لدى المتلقي.
يرى ضيفنا، الحاصل على عدة جوائز في الرسم والتصميم، أن رأس المال الثقافي لا يختلف عن المادي فهو يحتاج إلى بيئة جاذبة ومناخ استثماري مشجّع وقوانين محفّزة؛ بينما تطرد البيئة العراقية رؤوس الأموال المادية والمعنوية.
ويرهن بابلي، الذي أنجز العديد من الأعمال التصميمية والجدارية والنحتية، إعادة بناء رأس المال الثقافي بتكوين بيئة مؤسسية وقيمية تستقطب المبدعين المهاجرين بجانب تنشئة أجيال فنية جديدة، مؤكداً أن المنجز الثقافي للدولة يشكّل ميزة تنافسية لها على الصعد التجارية والسياحية، ويحسّن سمعتها كعلامة حضارية لها؛ إذ يفيد بابلي أن العراقيين كانوا يسمّون “أسياد آسيا” في الفنون التشكيلية.
ويلفت الفنان الحاصل على دكتوراه الرسم والتصميم من جامعة بغداد للعلاقة العضوية بين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، حيث تهتم الطبقة الوسطى، ذات المستوى المعيشي والمعرفي المعقول، بالأنشطة الفنية لأنها تتمتع بحاسة متذوّقة للجمال. كما أن الطبقات الثرية برأيه تقتني الأعمال الفنية إما لأنها تتذوقها فعلاً، أو لأهداف تجارية ربحية، أو للوجاهة الاجتماعية.
ويُعدّ الفن سلعة اعتبارية تعزز القيمة المضافة للاقتصاديات، ووفقاً للفنان بابلي، يعوّض استثمار رأس المال الثقافي نقص الموارد الطبيعية والمالية لأنه يرتقي بالثروة البشرية ونوعية الحياة، ويضرب المثل بالمغرب وتونس؛ إذ أدى اهتمامهما بالفن والثقافة لتعزيز انفتاحهما على العالم وتطوير السياحة، ما أهّلهما لرعاية مهرجانات دولية.
كما أن تغذية المجتمع بالإبداعات الفنية والثقافية وروح الجمال والحوار، والكلام لسعدي بابلي، تكبح جماح العنف وتحدّ من التطرف الذي هو نتاج الضغط النفسي والاكتئاب الاجتماعي، وترمم الاختلالات العاطفية في المجتمعات، وتسهم في مداواة شروخها وتصدعاتها.
بطالة ثقافية
يؤكد بابلي، المتخصص في الرسم المعاصر، أن عاملين ساعدا على امتلاك العراق لثروة ثقافية هائلة هما الإرث الفني التاريخي الناتج عن تعاقب وتعددية حضاراته، وغنى تنوعه الثقافي والإثني؛ لكنها ثروة مهدورة بفعل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على المجتمع فهمّشت الثقافة والفن.
بابلي: تغذية المجتمع بالإبداعات الفنية والثقافية وروح الجمال والحوار تكبح جماح العنف وتحدّ من التطرف
ويربط ضيفنا معالجة العطب الراهن بالتنمية الثقافية عبر إطلاق المهرجانات والمعارض والاستثمارات الفنية، وإنشاء مدن الإبداع، وتأسيس بنية تحتية للثقافة كالأستوديوهات والمسارح والصالات، ومراكز التدريب وورش بناء القدرات لاحتضان المواهب الشابة، وتكوين رأس مال بشري فنّي وإبداعي، ومعالجة ظاهرة “البطالة الثقافية” التي تعانيها الطاقات والمهارات، فالتعافي الثقافي والفني، وفقاً لبابلي، مدخل حيوي للتنمية المستدامة.
ويقول بابلي إن الفنان العراقي ينتمي إنسانياً لثقافته الأم، لأن صلة الإبداع وثيقة بالحاضنة الأولى، والفن، برأيه، يرتبط بالهوية الثقافية للفنان، ودائماً لدى المبدع حنين لجذوره، ونجاحه في المهجر لا يروي عطشه للنجاح في بيئة النشأة.
سجن المحلية
لرأس المال الثقافي، وفق بابلي، وظيفة حضارية في التواصل بين الثقافات، لأن الانطواء المحلي يميت الإبداع، فالعالمية صفة جوهرية في الفن. ويشدّد على أن التنوع الثقافي إطار حارس للإبداع، أما العزلة والأحادية فمدمّرتان للمواهب والمهارات، محذّراً من النزعات الفاشية والأصولية التي تسبب تجريف الواقع الثقافي واستئصال الجمال وإماتة الحياة الفنية.
ولا ينكر بابلي الصلة بين هويتيّ الفنان الوطنية والإبداعية؛ لكنه يرفض تحول الانتماء المحلي إلى قوقعة للانكفاء على الذات، داعياً لكسر الحواجز والانطلاق نحو العالمية، فالفن بطبيعته فعل كوني إنساني عابر للثقافات، كما أن الذائقة الأجنبية تبحث عن فن ذي هوية.
ويشجّع بابلي الاندماج الثقافي العالمي، مؤيداً التشبيك بين الخصوصية والكونية في الفنون، ومؤكداً أن الحركتين الثقافيتين المحلية والعالمية تتداخلان في نسيج جمالي وإنساني واحد تجمعه قيم روحية ومعرفية مشتركة.
والإبداع، كما يوضح بابلي، لا يمكن تأطيره جغرافياً، فالانغلاق الثقافي الطويل للصين مثلاً تسبب في ضعف تأثيرها الثقافي عالمياً، ما يسلّط الضوء، بحسب الأكاديمي العراقي، على أثر السياسة في الثقافة، ويفسّر أهمية الحرية للفن، فلا إبداع بلا حرية، موضحاً أن الدكتاتوريات تدعم الفنون في إطار التوظيف السياسي، وليس لصالح المجتمع، كالفن النازي الذي كان تعبوياً يدعو لأفكار هتلر.
ويعتبر بابلي استعمال الفن أيديولوجياً بالترغيب أو الترهيب قتلاً لروح الإبداع، دون أن ينفي الدور البنّاء للنخبة السياسية المستنيرة في الإقلاع الثقافي للمجتمعات وإطلاق الحريات وتدعيم الحداثة الفنية كما حصل في أوروبا.
|
التجسير الثقافي
يلفت بابلي إلى أهمية التجسير الثقافي في التمازج الفني والإبداعي بين الحضارات، بما يعمّق قيم السلم والتعايش، كالتلاقح بين الثقافتين الشرقية والغربية أو العربية والكردية، داعياً لاستثمار نقاط التلاقي المشترك بين الثقافات الإنسانية وتعميقها.
ويحذّر بابلي من الانحسار الإبداعي والجفاف الفني الناتجين عن قصر الفعل الثقافي على الحيز الذاتي لشعب أو مجتمع، فالفن من وجهة نظره حالة إنسانية راقية داعمة للتسامح الكوني، ولا يمكن ربطها بالشوفينية أو المذهبية أو المناطقية.
ويؤكد الفنان العراقي أن إماتة الحركة الإبداعية واغتيال الجمال يفرزان التخلف الاجتماعي والأمية الثقافية والتشوّه القيمي، فالفنون تهذّب الروح وتروّض النفس، وتقدّم سعادة البصر والسمع والعقل للمتلقي، لافتاً لما يعتبره فراغاً عاطفياً دائماً لدى الإنسان؛ إذا لم تشغله الموسيقى والغناء والتشكيل والرواية، فستملأه السلبية والكراهية والقسوة.
يشير بابلي لأهمية الانفتاح الثقافي، والإرهاف الحسي والروحي والبهجة الجمالية واللونية، في تطوير شعور الإنسان، والارتقاء بمعايير حياته ومستوى طموحه، ومنظومته الأخلاقية والسلوكية، ذلك أن الفنون، بحسب التشكيلي بابلي، تجعل المجتمع نشيطاً ومتفائلاً، وتخفف حدة توتراته، وتبث الطاقة الإيجابية عبر وظائفها الجمالية كتحفيز الخيال وبناء السلام الداخلي والتأهيل النفسي للإنسان.
ويدعو ضيفنا للإقرار بنخبوية الفنون؛ فالفن بطبيعته ليس جماهيرياً لأنه لا يهدف للتعبئة الأيديولوجية أو عسكرة الجمهور باتجاه فكرة معينة. ويتحفّظ على مقولة “الفن للمجتمع″ مستعيضاً عنها بقوله إن “الفن جزء من المجتمع″، فالفنان برأيه يعبّر عن إبداعه الذاتي، وليس ملزماً بالانقياد للذائقة المجتمعية لئلّا يفقد ريادته الإبداعية وفرادته، مؤكداً أن التنوير الثقافي يتحقق عبر الإقرار بأن الفن يصنع الذائقة وليس العكس.
ولا يؤمن بابلي بالمدرسة الواقعية في الفن التشكيلي، فالفنان برأيه ينبغي أن يقدم أفكاره وأحلامه، ويجترح قراءته الفنية الجمالية الرمزية للواقع والمستقبل، وليس استنساخ الواقع بحذافيره. ويوضح أن الفن لا يمكن أن يكون واقعياً، لأنه يتحرك في “مساحة الحلم” والتعبير التجريدي، أما الواقع فماثل أمامنا وليس مطلوباً إعادة إنتاجه فنياً، بل محاكاته جمالياً ولونياً لحفز روح التغيير، وإلهام المتلقي وتخليق اتجاهات جديدة في الوعي والوجدان.
التذوّق الثقافي نخبوي أيضاً، لأنه يعتمد على وعي المتلقي وثقافته، وليس كل المتلقّين يتذوّقون الفنون لا سيّما المعاصرة منها
ويوضح بابلي أن التذوّق الثقافي نخبوي أيضاً، لأنه يعتمد على وعي المتلقي وثقافته، وليس كل المتلقّين يتذوّقون الفنون لا سيّما المعاصرة منها، وقولنا إن “الفن ملك للمجتمع″ لا يعني محاكاة الذائقة الشعبوية والتخلي عن الانفعال الذاتي وقيم الحرية الفنية والمبادرة الإبداعية المستقلة.
لكن النخبوية، بحسب بابلي، لا تعني تفريط الفن في دوره التنويري؛ فالمجتمع بدون الفنون يدخل حالة ركود واجترار وتقادم، والتغيير الثقافي يحتاج للجرأة والريادة وحرية الإبداع، ولتمرد الفنان أو المثقف الذي يسبق عصره فيقدم لوحة أو منجزاً أدبياً قد يرفضه المجتمع في وقته، ولا يدرك قيمته ورسالته إلا بعد نصف قرن، وهو ما يسميه بابلي بـ”الفجوة الثقافية” بين المبدع والجمهور.
تمرد إيجابي
لا يؤيد بابلي تفسير الحرية الثقافية بأنها الثورة والتصادم، فالهدف الإبداعي عنده هو الارتقاء بوعي المجتمع عبر عمل فني تنويري، حالم وخلّاق في رمزيته وعمقه الجمالي والإنساني، وليس مطلوباً من الفنان استفزاز المجتمع مباشرةً، رغم أن هذا برأيه قد يحصل؛ لكنه ليس غاية الفنان أو هدفه الأساسي، فليس للإبداع من غاية سوى الإبداع نفسه.
ويدعو بابلي الفنانين الشباب للتمرد الإيجابي للارتقاء بقيم المجتمع وليس الارتداد بها إلى الوراء، فالتمرد الفني فعل مبادر بنائي وليس سلبياً أو هدمياً. وينصحهم أن يستعدوا لرفض المجتمع لأفكارهم، فالفنان يفكّر بوعي مستقبلي فيما المتلقي رهينة واقعه وظروفه.
كاتب من العراق