النباتيون ومحبو اللحوم.. التبريرات مقنعة والطبائع متباينة

“الذئب الذي يأكل الخروف والذي بدوره يأكل العشب.. العشب الذي تأكل بعض نباتاته الحشرات.. الحشرات التي تمتص دماء الذئاب..” هي مسألة قديمة قدم قوانين الطبيعة، وجدليتها التي لا تنتهي، ويأتي ليعقبها سؤال الإنسان المتفلسف والباحث دائما عما يبرّر نزوعه ويشرعن رغباته.
النباتيون من البشر والمتعلقون بكل ما يزرع ويغرس، فيحصد ويقطف، هم موجودون ويتكاثرون وكذلك يتواجد محبو اللحوم الحيوانية بكل ألوانها في البر والبحر والجو، فيربّون الماشية ويدجّنون الحيوان وكذلك يصيدونه ويذبحونه ويسلخونه دون الحاجة إلى طرح السؤال عن جدوى ما يفعلونه، لكن مجرد مراجعة هذا السلوك تجعل الإنسان مرتبكا وباحثا عن التبرير الذي قد يورّطه في تنظيرات قد تكون ليست من صميم قناعاته، وما كانت لتخطر على باله.
الخلاف بين النباتيين من جهة وعشاق اللحوم من جهة أخرى، يحتد ويتزايد في العصر الحديث لأسباب صحية بحتة تتعلق بالحديث عن أضرار اللحوم ثم يأتي الكلام عن الجانبين النفسي والروحي كحالتين مكملتين لاحقتين. يدّعي المعارضون للاتجاه النباتي أن البروتينات الحيوانية لا توجد إلا في الحيوانات فقط، ولهذا لزم أكل لحوم الحيوانات، وبالذات الأسماك، ولا تستطيع البدائل النباتية مثل فول الصويا مثلا، تعويضها، ولكن الحقيقة أن البدائل النباتية تستطيع تعويض أغلب اللحوم، أما بالنسبة إلى الأسماك فيستطيع المرء أن يتناولها، وهناك العديد من الأسباب التي تدفع النباتيين إلى اتباع هذا المنهج وأهمها دينية، إذ أن 70 بالمئة من نباتيي العالم هم من الهنود والبوذيين أو الهندوس، وهم يرون أن قتل حيوان في مقام قتل إنسان، لأننا كلنا مخلوقات الله، أما في المسيحية فلا يوجد تحريم للحوم ومع ذلك ذكرت الكاتبة الإنكليزية كارن أرمسترونغ في كتاب عن المسيح مقولة عنه مفادها “لحوم تأكل اللحوم، يا لهذا العدوان”، حيث يرى الكثير من النباتيين أن أضرار اللحوم أكثر من منافعها، وأن نسبة المواد المفيدة في اللحوم قليلة ولا تحتاج إلى أكل هذه الكميات الكبيرة من اللحوم للحصول عليها، ويمكن الحصول عليها من مصادر أخرى.
والأسباب الأخرى أخلاقية، وهي من أهم أسباب تجنب أكل اللحوم، باعتبار ما يحدث للحيوانات في المذابح قبل الذبح من تعذيب بربري ليس له مبرر أو معاملة، وهي غاية في السوء للحيوانات في الكثير من المزارع، حيث تعيش أنواع من الدواجن مثلا في صناديق ضيقة الحجم أو أبقار في مزارع لا ترى ضوء الشمس أو في ظروف هي غاية في القذارة والأمراض، وهو ما يصل إلينا في النهاية كمستهلكين للحوم، أما الإسلام فإنه يحرم أكل لحم الخنزير ويسمح بلحوم أخرى مشروطة، وفق القرآن والسنة النبوية، كما تحرم الهندوسية لحوم الأبقار وما إلى ذلك من مختلف العقائد. النباتيون يواجهون مخاطر صحية لأن بعض المغذيات لا توجد إلا في المنتجات حيوانية المنشأ، ويواجه النباتيون أيضا نقصا في المعادن والفيتامينات.
وأثبتت دراسة أن المتقدمين في العمر يجب عليهم الحذر الشديد إذا ما قرروا التحول إلى النظام النباتي، لأن أجسامهم تصبح أقل قدرة على امتصاص بعض الفيتامينات الأساسية. ويواجه النباتيون أيضا احتمال نقص فيتامين “دي” ومستويات الكالسيوم في أجسامهم، ومن المعروف أن نقص هذا الفيتامين لدى الأطفال يسبب الكساح وهشاشة العظام للكبار.
ويواجه النباتيون مخاطر نقص الحديد (فقر الدم)، وذلك ليس فقط بسبب استبعاد المنتجات الحيوانية، ولكن أيضا بسبب ارتفاع معدل الألياف في الأصناف الغذائية البديلة مثل فول الصويا والنخالة، لأن الألياف تمنع امتصاص الحديد، وفي هذه الحالة قد يفقد المرء شعره وكتلة من عضلاته، إضافة إلى تراكم غير طبيعي للسوائل في الجسم.
وفي الدين الإسلامي حرم النبي (صلى الله عليه وسلم) وكل ضار وأكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، وحرم أكل لحوم الحمر الأهلية وغيرها من الأطعمة والمشروبات، فقال “لا ضرر ولا ضرار”، فقد يكون الطعام حلالا من حيث الأصل ولكنه بسبب الإسراف في أكله يؤدي إلى الضرر فيكون حراما، وهذا لا يختص باللحوم بل في كل شيء يتضرر الإنسان بأكله يكون حراما.
الحيوان صديقك.. فكيف يأكل الواحد صديقه
|
نسبة النباتيين ترتفع في العالم مع نفس السوية التي ترتفع بها نسبة المقدمين على تناول اللحوم، وهي مفارقة عجيبة يبررها الطبيب التونسي المختص سليم بن عبدلله بقوله “الجواب هو أن القضية تتعلق بالثقافة الاستهلاكية وطرقها العشوائية يمينا ويسارا، حتى أن الفرد في مجتمعاتنا يقبل على الفعل ونقيضه في ذات الوقت”.
ولا يوجد مصطلح ثابت للنباتيين وذلك لاختلاف أفكارهم، رغم أنهم يتفقون حول رفضهم لأكل اللحوم، ومع أن الكثير من الذين يتحاشون تناول الغذاء الحيواني يعتبرون أنفسهم من النباتيين، إلا أن بعضا من هؤلاء يتفادى تناول اللحوم الحمراء، فيما يتجنب آخرون كل المنتجات الحيوانية، والكثير من الآخرين يقعون بين هاتين المجموعتين.
النباتيون لا يكتفون بالمسألة الأخلاقية في الدفاع عن وجهة نظرهم، بل يؤكدون أيضا على الأضرار الصحية التي يمكن أن تتسبب فيها اللحوم، والتي يخلو منها النظام الغذائي النباتي في نظرهم، فبحسب بعض المصادر، فإن نسبة كبيرة من الناس الذين لا يأكلون اللحم، يعيشون لمدة أطول من نظرائهم من آكلي اللحوم، إضافة إلى أنهم يكونون بمنأى عن بعض الأمراض المزمنة والمستعصية، كما أن الإنسان في نظر النباتيين ليس في حاجة إلى اللحم الحيواني حتى يعيش حياته في صحة جيدة، فالعناصر الغذائية التي تحتوي عليها المنتوجات النباتية، كافية لإمداد الجسم بكل ما يحتاجه.
ويضيف بعض النباتيين البيض والحليب أو أحدهما إلى نظامهم الغذائي، بينما ترفض الحركات النباتية الصارمة جميع المواد المتأتية من الاستغلال الحيواني. وإلى جانب الحجج الأخلاقية والصحية، تضم الحركات النباتية إلى قائمتها حججا بيئية واقتصادية واجتماعية لمناهضة استغلال الثروة الحيوانية، ومن ذلك احتجاجها بأن صناعة اللحوم هي من الأسباب الرئيسة لظاهرة الاحتباس الحراري والتلوث وتدمير الثروة الغابية، إضافة إلى مساهمتها في تدهور صحة الإنسان، مما يرفع تكاليف العلاج، ناهيك عن غلاء المنتوجات الغذائية الحيوانية، وما يتطلبه توفير الأعلاف من كميات ضخمة من بعض المنتوجات الزراعية، والتي يمكن أن تسد فاقة ما يقارب المليار من البشرية التي تعاني من الجوع، فالثور الواحد يمكن أن يوفر 1500 وجبة؛ في حين أن ما استهلكه خلال حياته من الحبوب يمكن أن يوفر 18000 وجبة إلى غير ذلك من المعطيات التي يحتج بها المناضلون النباتيون استنادا إلى بعض الدراسات.
النباتيون لا يكتفون بالمسألة الأخلاقية في الدفاع عن وجهة نظرهم، بل يؤكدون أيضا على الأضرار الصحية التي يمكن أن تتسبب فيها اللحوم
ويتبنى الكثير من الشخصيات العلمية والفلسفية والثقافية اللامعة الفلسفة النبـاتيـة المسـالمة والدفـاع عن حقـوق الحيوان على اختلاف الاعتبارات والمنطلقـات، ومن تلك الشخصيات ألبرت أينشتـاين الفيـزيائي الشهيـر الذي كان يرى أن اعتماد النبـاتية كنظام غذائي مفيد للصحة البشرية من شأنه زيـادة فـرص بقـاء الحيـاة على الأرض، كما يرى الفنان الإيطـالي دافينتشـي الذي ترك اللحم في طفـولتـه أنـه سيـأتي يوم على الناس يرون فيه قتـل الحيـوانات كقتل أمثـالهم، وهي رؤية حـالمة، وطبيعي أن تصدر مـن فنان وربمـا تحققـت نبوءته باتساع نطاق الحركات الأخلاقية المدافعة عن حقوق الحيوان، وفي حين يرى الروائي الروسي تولستوي، أن أول فعل يتعين على التائق إلى حياة الفضيلـة هو أن يمتنع عن إيذاء الحيوانات، وكان يرى أن خطـوة فقـط تفصـل بين قتل الحيوان وقتل الإنسان ولا فرق بين التسبب في معاناة الحيوانات وبين التسبـب في معـانـاة البشـر، ويرى أيضا أنه طالما هناك مسالخ، ستكون هناك ساحات للقتال.
وهذا الربط بين عدوانية الإنسان تجاه الحيوان وعدوانيته تجاه بني نوعه رأيناه عند فيثاغورس، ويأخذ هذا الربط معنى مغايرا عند بعض الفلاسفة، بحسب ما يرى بعض النباتيين الغيورين، فبالنسبة إلى توما الأكويني وكانط، فإن الناس الذين يعاملون الحيوانات بقسوة تنشأ لديهم مع الزمن، عادة تدفع بهم إلى معاملة البشر على نحو مشابه، ومن ثمة فالغاية هي الإنسان أولا وأخيرا من وجهة النظر هذه والتي لا تهتم بالحيوان لذاته.
ومن النباتيين توماس إدسون، ويقول إن النباتية تمكنه من استعمال عقله على أكمل وجه، ويقول المؤلف المسرحي جورج برنارد شو تعبيرا عن نباتيته “الحيوانات أصدقائي وأنا لا آكل أصدقائي”.
آكل اللحوم.. طبيعة بشرية يجب احترامها
صعب أن نستبعد حضور اللحوم من حياتنا
اللحم يتمتع بقيمة غذائية عالية، فهو يمد الجسم بالبروتينات والأملاح والدهون الضرورية، كما أنه يحتوي على الأحماض الأمينية الأساسية التي يحتاج إليها الجسم ولا يستطيع تخليقها. ويشير الدكتور فوزي الشبكي، أستاذ التغذية بالمركز القومي للبحوث بالقاهرة، إلى أن الإنسان بحاجة من 50 إلى 60 غراما من البروتين يوميا، حيث تحتوي المئة غرام من اللحم على 20 غراما من البروتينات، وهو ما يعني أن المئة غرام من اللحم توفر نحو ثلث الاحتياج اليومي.
ويقول الدكتور بلال صفوت “لا تتعجب حينما تقرأ أن للحم الأحمر فائدة في تحسين صحة القلب، وهذا خلافا لما تقرأه وتسمعه دائما عن أن اللحوم الحمراء ألد أعداء القلب. لكن يشترط للحصول على هذه الفوائد، تناول اللحم بطريقة صحية وبكميات قليلة جدا”.
وفي حين وجد مايكل روسيلن، أستاذ التغذية الأميركي، أن تناول اللحوم الحمراء بكميات منخفضة يمكن أن يساهم في خفض مشاكل القلب عن طريق تقليل الكولسترول كنتيجة لوجود حامضين دهنيين يوجدان باللحم وهما الستياريك وهو حامض دهني مشبع، والأوليك وهو حامض دهني أحادي غير مشبع.
وأشار الشبكي إلى أن اللحوم الحمراء تتمتع بقيمة غذائية عالية، فتوجد في اللحوم البروتينات والأملاح والدهون الضرورية للجسم، وأيضا تحتوي اللحوم الحمراء على الأحماض الأمينية الأساسية التي يحتاج إليها الجسم ولا يستطيع تخليقها.
وفي دراسة أجريت في أستراليا مؤخرا وجد أن تناول ما بين 30 و60 غراما يوميا من لحم البقر أو الضأن، يمكن أن يساهم في خفض معدلات الاكتئاب الشديد والقلق، ولكن هذا يتوقف على نوع اللحم ذاته، حيث أن اللحوم الأسترالية غنية كثيرا بأحماض “أوميغا3”، نتيجة تغذية الحيوانات في المراعي على الحشائش، كما أن اللحم يحتوي أيضا على التربتوفان، وهو حامض أميني يتحول إلى هرمون السيروتونين، وهو هرمون يساعد على تحسين الحالة المزاجية والتخلص من القلق والتوتر.
وتقول جيسيكا جيردوين، اختصاصية حمية وتغذية رياضية، “إن اللحوم الحمراء تزوّد العدائين بالمغذيات التي يحتاجونها مثل الحديد، فتساعدهم على الاحتفاظ بمستويات الطاقة اللازمة. كما أنها تزودهم بالبروتينات والأحماض الأمينية اللازمة لترميم التمزقات العضلية الصغيرة التي يتعرضون لها في أثناء التدريبات”. وتضيف أن “قطعة لحم بقر منزوعة الشحم، مثل لحم أعلى الخصر أو لحم ما بين أضلاع القفص الصدري وأعلى الخصر، تُعد مصدرا غنيا بالزنك والحديد، وأيضا بفيتامينات ‘بي’ التي تساعد على تحويل السكريات (الكربوهيدرات) إلى الوقود الذي يمنح الجسم الطاقة اللازمة للقيام بالتدريب والتمارين الرياضية”.
اللحوم من الأغذية الغنية بالزنك الذي يدخل في بعض عمليات الجسم الحيوية الهامة مثل الحفاظ على حاسة الشم وتنظيم مستوى السكر في الدم ومستوى التمثيل الغذائي
وتعتبر اللحوم من الأغذية الغنية بالزنك الذي يدخل في بعض عمليات الجسم الحيوية الهامة مثل الحفاظ على حاسة الشم وتنظيم مستوى السكر في الدم ومستوى التمثيل الغذائي، ويعمل أيضا على رفع المناعة ويساعد على سرعة التئام الجروح. كما أن اللحوم هي أغنى الأغذية جميعا بالحديد وهو ضروري للحفاظ على مستوى الهيموغلوبين في الدم وحماية الإنسان من أمراض فقر الدم، وهو كذلك مصدر جيد من مصادر العناصر المعدنية مثل الفوسفور والبوتاسيوم والماغنيزيوم والسيلينيوم وفيتامين “ب”.
واللحوم أيضا غنية بالدهون التي يمكن أن تؤدي إلى تتابعات صحية خطيرة على الإنسان، وهي غنية أيضاً بالبروتينات التي يمكن أن يؤدي تناولها بكثرة إلى الإصابة بمشاكل صحية من بينها أمراض الكلى.
ويتمسك العداؤون والرياضيون المحترفون بالمواظبة على إدخال القليل من اللحوم الحمراء في جل وجباتهم الرئيسة بإرشاد ومتابعة من مدربيهم وأطبائهم الرياضيين، ولا يخلو عدد من مجلات اللياقة وكمال الأجسام من مواد تدعو الرياضيين والنشيطين من طالبي اللياقة إلى عدم الاستغناء عن اللحوم الحمراء.
وكثيرا ما توصف الرؤية النباتية باللامعقولية بالنظر إلى كونها تناشد عالما خاليا من الألم، ومع أن النباتيين يصرحون بأنهم يسعون فقط إلى التقليل من المعاناة والموت وزرع المزيد من بذور السلام والحياة، فإن منتقدي فلسفتهم يؤكدون أن رفض النباتيين لمبدأ أكل اللحوم ينم عن رؤية مثالية حالمة لا يمكن بأي حال أن ترى النور على أرض الواقع،لأن للمثالية عدوا لدودا غير مستعد لإخلاء العالم لها، لا سيما وأنه أقرب إليه منها، إنها الواقعية التي تجعل من الواقع المادي منطلقها ومنتهاها.