نهايات الكلام والمجازر المفتوحة في زمان ما بعد الحروب

الأحد 2016/07/31

كان الكاتب النمساوي الشهير ستيفان تسفايج، يحرص على تبيان الفرق الكبير بين مناخ الحرب العالمية الأولى، والمناخ الذي مهّد للثانية. الكلام كان لا يزال، كما يؤكد، خلال الحرب العالمية الأولى مؤثرا وفاعلا، ولكن المناخ الذي سبق اندلاع الحرب العالمية الثانية كان مناخا نجح في قتل قيمة الكلام وتدمير فعاليته. نتج عن ذلك تدمير ملحوظ لكل الاعتبارات الملحقة بالكلام، والتي تقع المواثيق والعهود والاتفاقات الدولية في صلبها، وكذلك القيمة الأدبية والبنى الأخلاقية والقانونية، التي لم تكن في أساس تكوينها إلا بعضا من نتاجات الكلام وامتدادا لسلطاته وقيمته.

ما يحصل الآن في عالمنا المعاصر هو تصعيد مسعور لذلك المناخ الذي يتحدث عنه تسفايج، والذي لم يكن انتحاره يوم 23 فبراير 1942 سوى تعبير عن رغبة في الامتناع عن الوجود في ذلك العالم الذي فقد فيه أمثاله من صناع الكلام قيمتهم وجدواهم.

تراكم مناخ نهاية الكلام في مسار تصاعدي، كانت الهتلرية بدايته وليست ذروته، وهو يتخذ في تمرحله الآني صيغة تشظ كامل للكلام والقيم التبادلية التي يحملها. المجازر المفتوحة في كل العالم هي إعلان نهائي عن استحالة التواصل والتفاهم اللذين يشكلان بضاعة الكلام الأساسية.

لقد نشأ نوع من التعريف عن الذات يقع دائما خارج اللغة، وتم استبدال الكلام بالرموز التي تكمن خطورتها في صلاحيتها المفتوحة لقول الشيء وضده في آن واحد.

وقْع هذا التحول على المجال العام يمكن تلمّسه في استحالة تحديد المفاهيم التي يمكن الانطلاق منها لبناء مواقف واضحة من قضايا محددة.

منذ فترة ،على سبيل المثال، انفجر في لبنان نقاش حاد على خلفية مشهد ذبح طفل على يد فصيل تابع للفصائل السورية المعارضة.

لم يكن من الممكن الحصول على حدّ أدنى من تحديد لطبيعة هذا الموضوع وتثبيت موقعه، ليس بسبب تضارب الولاءات، ولكن بسبب استحالة تحديد المفاهيم المتداخلة والمؤسسة لهذا المشهد.

نقصد بذلك أن مفهوم المعارضة المعتدلة لم يعد مفهوما قابلا للإحالة إلى مجال معرفي وسياسي وأخلاقي محدد، وكذلك مفهوم الطفولة ومفهوم الذبح، وذلك لأن كل شيء قد دخل في حالة أيقونية رمزية مفتوحة الإحالات ومتشظية المرجعيات.

هكذا لم تعد السكين التي تذبح أداة جريمة بل وسيلة ثورية والعكس صحيح أيضا، ولكن الفكرة أن التناقض في هذا المجال لا يسري على الأمور خالقا مسافة يمكن من خلالها الكشف عنه وإظهاره، بل تكمن المأساة الكبرى أنه يظهر موحّدا في حين تحال كل الآراء ووجهات النظر إلى الخلفية وتصبح بلا قيمة.

هكذا ولمزيد من الإيضاح نقول إن شبكة توصيفات مفتوحة لحقت بالقصة بدأت باختلاف على تحديد هويته فقيل إنه فلسطيني قبل أن يقال إنه سوري. بعد ذلك قيل إنه ليس طفلا وإنه كان مقاتلا في صفوف النظام السوري وظهرت صور له بالسلاح واللباس العسكري، كما قيل إن مظهره الطفولي ناتج عن إصابته بمرض نقص الدم”الأنيميا”، وإن النظام لطالما عمد إلى استغلال المصابين بمثل هذا المرض وإجبارهم على القتال في صفوفه مقابل كيس من الدم شهريا. كل تلك الشبكة من الرموز انفجرت دفعة واحدة وكانت متلاحمة ومكثفة بشكل لا يمكن فيه فصلها عن بعضها البعض، ولكن الضائع والمهدور والفاقد للقيمة في كل هذا المد الذي لا ينتهي من الإحالات والمرجعيات كان ذلك الكائن المذبوح ومعنى فعل الذبح.

وجود ذلك الكائن بصيغة إنسان لم تعد ممكنة، ليس بسبب القسوة الرهيبة للصراعات المندلعة وحسب، بل بسبب أن هذه المفردة نفسها باتت خاضعة لسياقات المجزرة، ولم تعد تعريفا جامعا بل مجرد تأويل يتصارع مع تأويلات أخرى لا تعدّ ولا تحصى وتاليا باتت بلا مركز ولا وزن.

كان قد انتشر في خضم المشاهد التي أفرزها الصراع السوري مشهد لشخص يصرخ “أنا مو حيوان أنا إنسان”. هل من دليل على نهاية الكلام أكثر بلاغة من أن يكون أيّ إنسان مضطرا لإثبات بداهة انتمائه إلى الإنسانية، وأن يكون هناك من ينزع عنه هذا الحق الطبيعي ويعامله على أساس انتمائه إلى حيز آخر. الإنسانية لم تعد قاسما مشتركا لأنها لم تعد موجودة كونها تعريف يكرّسه الكلام المقتول، فمن يستطيع أن يهدر إنسانية كائن آخر لا يمكن أن يكون قادرا على النظر إليه كإنسان، ولا أن ينظر إلى نفسه كذلك، وبقدر ما يعجز عن تعريف ضحيته فإنه عاجز عن تعريف نفسه كذلك.

من هنا نخلص إلى نتيجة مفادها أن ما يحصل في العالم الآن ليس حروبا، فالحروب كانت لحظة تعطيل الكلام، وما يحصل الآن ليس مجرد تعطيل للكلام بل إعدام له. ما يحصل هو إعلان عن افتتاح زمان ما بعد الحروب، وهو زمان المجازر المحضة التي لا تقع غايتها خارج ذاتها وكذلك وسيلتها.

للحروب أهداف تريد الوصول إليها ولكن المجازر لا تهدف سوى إلى الاستمرار. لعل أكبر إثبات على سيادة روح المجزرة على عالمنا المعاصر هو وحدة البنى التي ينطلق منها المتصارعون ووحدة القيم، فالإرهاب ليس سوى مرآة أمينة يتجلى فيها وجه الحرب عليها بوصفها تطابقا وجوديا معه، حيث يشكلان معا روح العالم ولحظته ومستقبله على الأرجح.

كاتب لبناني

6