محمد العثمان: من يكتب الشعر يمكنه أن يكتب أي جنس أدبي

رغم أن الرواية كجنس أدبي خرجت من حدود محاكاة الواقع لتجترح لنفسها مجاهل إبداعية أخرى قوامها الخيال الذي يشكل من الواقع مادة متخيلة في شخوصها وأحداثها ليبني بذلك عالما بديلا، لكننا نلاحظ في ما يكتبه العرب مؤخرا عودة المحاكاة والروايات القائمة على الواقع بشكل كبير خاصة مع الظروف التي تشهدها المنطقة العربية التي يبدو واقعها أكثر غرابة من الخيال. “العرب” التقت الكاتب السوري محمد العثمان حول روايته “حربلك” التي حاكى فيها واقع بلده.
السبت 2016/07/30
إن لم نكتب بصدق لن يعيش ما نكتب

في باكورة أعماله الروائية “حرْبِلك”، يأخذنا الناقد والشاعر والروائي السوري الشاب محمد العثمان، إلى العوالم التي عاشتها بلاده منذ منتصف ستينات القرن الماضي وحتى بدايات ثورة السوريين في مارس 2011، وما تلاها من خراب عميم جراء البراميل المتفجرة والأعلام السوداء وقاطعي الرؤوس والميليشيات الطائفية المذهبية، ما أدى إلى تشظي الحياة الاجتماعية –المعروفة بغناها وتنوعها الديني والإثني والعرقي والطائفي والمذهبي-، كاشفا لنا عبر 166 صفحة جوانب من المظلمة التي عاشها ويعيشها أبناء شعبه منذ خمسة عقود.

محاكاة الصراع

يقول محمد العثمان عن رواية “حرْبِلك” الصادرة حديثا عن “دار فضاءات” بعمّان إنها رواية تحكي عن الألم السوري النازف، وتحاكي الصراع السياسي في سوريا منذ العام 1963 وحتى وصول البلاد إلى فترة اندلاع الثورة، وأهم التداعيات التي أوصلت الشعب السوري إلى ما وصل إليه في ثورته الحالية. وهي تكشف عن سطحية فكرنا وبساطته أمام بشاعة ما كان يُحاك لنا، من الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة وحلفائها.

كتب عثمان هذه الرواية على مرحلتين: الأولى في مدينته حلفايا تحت القصف والنزوح في خريف 2013، والمرحلة الثانية كانت في تركيا صيف العام 2015، حيث عمل جاهدا حتى يتفرغ لإكمالها وإعادة ترتيب ما كتبه سابقا.

ويتابع العثمان قائلا “في عملي هذا حاولت أن أتحدث عن بنية المجتمع السوري وأن أدخل إلى عمق علاقاته، العلاقات المزيفة القائم عليها هذا المجتمع، فتعددت الشخصيات ومناخات تفكيرها لتتعدد معها أوصاف هذا المجتمع. الشخصية الأولى كانت دانيال الشاعر الطموح المتمرد على عاداته، لكنه غير قادر على إيجاد آلية حقيقية لهذا التمرّد، تحقق له الاستمرار في خلق عالم جديد يحلم به، أما الثانية فكانت شخصية مضر الطيب والسموح الذي تحوّل إلى ضحيةٍ للنزاعات الفردية لمن حوله، فقدّم تضحيات كبيرة لم تغفر له أمام أبيه وحبيبته ومديره في العمل، وحين جاءت الثورة قال كلمته فكان قربانها، أما موسى -الشخصية الثالثة- فهو مثال للشخص المفكر الواعي والمتردد في كل شيء، يرغب في أن يحصل على كل طموحاته العظيمة دون تضحية كبيرة أو موقف واضح”.

ويبين الروائي الشاب أن الحامل الرئيس في روايته “حرْبِلك” هو الحديث عن كذبة كبيرة كان يعيشها هذا الشعب، وعند أول هزة ظهرت الحقيقة، وتجلى التصدع الموجود في صميم النفوس. وسيرصد القارئ للعمل انتقاده المعلن لهذا المجتمع الذي رضخ طويلا، ليكون أبناؤه لقمة سائغة بيد نظام تاجر بدم الناس ولقمة عيشهم باسم “الممانعة”.

ينهي محمد العثمان روايته بالكثير من الألم والتفجّع والقهر، تاركا أبطال الرواية لمصائر مأساوية بعد أن تداعت أحلامهم واصطدمت بحائط اليأس الذي لم يكن بناؤه وليد اللحظة بل نتاجا طبيعيا لما مر به السوريون في العقود الخمسة الأخيرة، غير أنه يترك النهاية مفتوحة.

هنا سألناه: هل ترى أن مهمة الروائي التبشير بأمل قادم؟ ليجيبنا “يجب أن يتمتع الأديب الحقيقي بهذه الصفة، كثيرة هي الكتابات التي غيرت مستقبل شعوب لأن كتّابها كتبوا برؤية صادقة إلى المستقبل كـ(رامبو) الذي أشعلت كتاباته فتيل الثورة الفرنسية، لقد كان لي استشراف سابق في قصائد شعرية عديدة كـ(وقفة بين يدي المعري، وبين الشاعر وطيف المعري، وقصيدة الخوف، وقصيدة الفيض) وغيرها، كنت متأكدا أنه لا بد أن يأتي يوم وتنفجر هذه القنبلة، واليوم أرى أن مستقبل سوريا لا بد أن يعود مشرقا ولو بعد حين، لذلك كانت الشخصية الطموحة دانيال وكان وجودها المعتدل، فبقي على قيد الحياة ليمثل دور المتعقّل والطموح الساعي نحو التغيير، واستيعاب الآخر مهما اختلف معك”.

"حربلك" رواية كتبت تحت القصف تكشف أعماق المجتمع السوري

لا مجاملات في الأدب

ونسأل: كيف تبني عمارة روائية الآن في ظل الخراب الذي تفرضه المأساة على الواقع ليقول “إن مأساة أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية كانت أكبر مأساة في التاريخ، وقد ظهر أدب خالد من رحم تلك المأساة. لقد كتبت ما كتبته في ‘حرْبِلك’ لأقول رأيي بكل أمانة، فتقصدّت أن أكون حياديا بكل الحوارات، فجعلت شخصياتي في الرواية تنطق الحقيقة بالضبط، وكل ما عاينته بأم عيني، أكانت مؤيدة للنظام أم معارضة له؟”.

ولا يخفي ضيفنا أنه عمل في عدة محطات من الرواية على أن يدخل إلى عمق بنية المجتمع السوري بنظرة تحليلية ناقدة، وأنه حاول من خلال الكتابة، أن ينقل بأمانة نبض الشارع الثائر، قائلا “حاولت أن أكون أمينا هنا وراعيت هذه النقطة بالتحديد، أن أنتقد سلبية هذا المجتمع في السكوت عن حقه خمسين عاما، لذلك ستين بالمئة من أحداث الرواية هي حقيقية وقد حصلت في محيطي، ففي رأيي إن لم نكتب بصدق لن يعيش ما نكتب ولن نستمر”.

بدأ العثمان شاعرا، وصدرت له مجموعتان شعريتان: “دخان الضوء والمعنى” (2008)، و”سدرة الموت .. شهوة الوطن” (2014)، كما صدر له كتاب نقدي بعنوان “البعد الثاني/‏‏‏‏‏ قراءة في آفاق الشعرية العربية” (2016)، لكنه خير الاتجاه إلى الرواية، ويعلق ضيفنا على ذلك فيقول “بصراحة من يكتب الشعر يكتب أي جنس أدبي، أنا أرى نفسي شاعرا، شاعرا فحسب، أجيد أن أعبر عن رأيي في نص شعري بطريقة أكاديمية، وأيضا أجيد أن أكتب عن معاناتي ويومياتي بطرق عديدة والسرد إحداها، فالإبداع لا يتجزأ عندي”.

يتابع “ففي الرواية تشرح وتبسط وتستطرد في الحديث عن قضية، تحاكم وتستنطق، تعود إلى التاريخ تقول كل شيء بطريقة عفوية، يفهمها المثقف وغير المثقف، أما في الشعر فأنت تقول كل ذلك بالإيحاء والتكثيف والموسيقى، لذلك لكل نوع خصوصيته، مع أني صرت أميل لكتابة النص المفتوح الذي يجمع كل الأجناس من دون قيود”.

وحول ما يشاع الآن من أن “الرواية أزاحت الشعر عن صدارة المشهد الأدبي في العشرية الأخيرة”، يرى محدثنا أن هذا غير صحيح، مضيفا “بالعكس، في العشرية الأخيرة نلاحظ أن الشعر يعيش أفضل حالاته الترويجية، لننظر إلى موقع ‘اليوتيوب’ ونشاهد مقاطع لنصوص جيدة وصلت إلى مليون مشاهدة وأكثر، ناهيك عن المسابقات الكثيرة التي بدأت تروج وتكرس الشعر كجانب مهم في حياتنا. وكذلك الرواية أصبح سوقها، قويا، خصوصا بعد ظهور مسابقات كـ: بوكر، وكتارا، والطيب صالح، وغيرها، لكل جنس متابعوه، ولا يمكن لجنس أدبي أن يلغي جنسا آخر، وهذا الأمر موجود منذ القدم، فهل أزاحت مقامات الهمذاني أو نثريات الجاحظ الشعر”.

15