بلديات جنوب لبنان على خطى "الدولة الإسلامية"

الأحد 2016/07/24

الاختلاط بين الجنسين ممنوع وبيع الكحول ممنوع، والسهر إلى ما بعد منتصف الليل ممنوع، ويجب على المحلات التجارية إقفال أبوابها في أوقات الصلاة، هذه عيّنة من التدابير الاستثنائية التي اتخذتها بعض البلديات الجنوبية في لبنان وأبرزها جبشيت وعيترون بحجة “الدفاع عن الأخلاق والعادات”.

وسبقت ذلك عمليات إقفال قسرية لمحلات بيع الكحول في النبطية، وفي حولا وفي البازورية، قرية الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، كما أجبر الحزب بعض بائعي الكحول المسيحيين في المناطق المختلطة على إقفال متاجرهم.

يتماثل هذا المنطق تماثلا تاما مع منطق البيانات التي يصدرها تنظيم الدولة الإسلامية تحت عنوان “الأخلاق والدفاع عن قيم الإسلام”، فقد كان الشبه كبيرا بين عناوين البيانات التي أصدرتها البلديات اللبنانية، وبين بيانات داعش التي تصدر تحت عنوان منع الاختلاط بين الجنسين.

ودفع هذا الواقع المرير ببعض الناشطين إلى نشر تعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي، تسخر من عنوان محاربة التكفيريين الذي طرحه حزب الله لتبرير مشاركته في الحرب السورية. وتساءلت لماذا نذهب لمحاربة التكفيريين مادمنا نقتدي بهم، ونعيد إنتاج أفكارهم وقيمهم. ووصل الأمر بالبعض إلى الإعلان عن نشوء دولة “داعج” في جنوب لبنان ككناية ساخرة تجمع بين الأحرف الأولى من اسم تنظيم الدولة الإسلامية -داعش- وتدمجه مع الأحرف الأولى من اسم بلدتي عيترون وجبشيت.

لم تأت قرارات بلدية جبشيت وبلدية عيترون في سياق خاص مرتبط ببيئة حزب الله، بل إن المفارقة تكمن في أن بعض الإجراءات المماثلة ظهرت في البيئات التي تناصب حزب الله العداء. فرئيس بلدية طرابلس السابق نادر غزال كان قد أصدر قرارات مماثلة تقضي بإزالة إعلانات الكحول من الأماكن العامة في المدينة وتحذير المواطنين من الجهر بالإفطار في شهر رمضان، وقد أعلن أحد الناشطين مؤخرا أن بلدية بيروت قامت بإزالة إعلان للبيرة في منطقة طريق الجديدة.

الجدير بالذكر أن عنوان العودة إلى الأخلاق كان العنوان الذي رافق نشوء حزب الله في الثمانينات، حيث راجت عمليات تفجير المحلات التي تبيع الكحول في الضاحية وفي مناطق الجنوب. وكذلك عمل الحزب على فرض الحجاب من خلال عمليات ترهيب عنيفة طالت الفتيات السافرات حيث كان يتم حرق وجوههن بماء النار.

وكأن التاريخ يعيد نفسه على الدوام في بلاد الأرز بشكل مأساوي. فترة الثلاثين عاما التي مرت على زمن الترويع والرعب الذي رافق إعلان الحزب الذي كان وليدا آنذاك عن ظهوره بذلك الشكل الدموي لم تنتج وقائع جديدة، تجعل ذلك الزمان ذاكرة منسية وبلا حضور على أرض الواقع. وجلّ القوى الفاعلة في الحياة السياسية اللبنانية، والتي تدّعي التعبير عن مشاريع متناقضة، عملت على إعادة إنتاج ذلك المناخ المتطرّف بشكل يكاد يكون موحدا.

رئيس بلدية جبشيت محمد فحص كان قد صرح مؤخرا للإعلام معتبرا أن القيم التي ينادي بها، والتي اتخذ القرارات على أساسها هي قرارات تنسجم مع طبيعة المجتمع الذي تطبّق فيه لأن هذا المجتمع في النهاية ليس مجتمعا علمانيا.

وكان لافتا استشهاد رئيس البلدية التابع لحزب الله بتجربة أميركية في أحاديثه الإعلامية الأخيرة حيث حاول إثبات صحة قراراته بعقد مقارنة مع تجربة أميركية قائلا “أين المشكلة في منع الاختلاط، هناك جامعات في واشنطن خصص لها جورج بوش جائزة كونها قامت بفصل الذكور عن الإناث، في أميركا يعتبر الأمر حضاريا ونحن نتهم بأننا دواعش، كل ما سنقوم به تخصيص جناح للفتيات في أماكن التسلية والإكسبرس وليس منعهم من ارتيادها، ومع هذا أقول لبناتنا لا تقصدن تلك الأماكن”.

الخطير في هذا المنطق أنه يبعد عن الساحة الصراع الفعلي القائم بين الحريات الخاصة والعامة، وبين الإجراءات التي تمس بها والتي تتخذ من عناوين الإجماع والتعبير عن الجمهور وتوجهاته حجة لتدمير الرأي العام والحريات، وإجبار الناس على قبول ممارسات لا تعبّر عن طموحاتهم وآمالهم، بوصفها صادرة عنهم.

كل هذا يدل على تسارع دخول لبنان في عالم التطرف، لأن الحريات العامة وصيانتها المكرسة في الدستور اللبناني هي التي تتعرض للمس قبل كل شيء. فالمادة التاسعة من الدستور اللبناني تقول بوضوح إن حرية الاعتقاد مطلقة، ومقدمة الدستور تحدد لبنان بوصفه جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد.

لا يمكن فصل ممارسات البلديات عن سياق سياسي أوسع يتصل بمشاريع ضرب اتفاق الطائف، والدعوات إلى مؤتمر تأسيسي وغيرها من العناوين. مهمة البلديات هي في الأساس إنمائية وليست سياسية أو تشريعية. هذه القرارات لا تتصل بالإنماء ولكنها تتصل بمشاريع سياسية كبرى، يسعى التطرف المتنامي في الوسط الإسلامي بشقّيه الشيعي والسني إلى تحقيقها على أرض الواقع.

ولعل مناخ التعطيل الذي يضرب البلاد والذي أدى إلى شلّ قدرة المجلس النيابي على سنّ القوانين شجع البلديات على أن تصادر دور المجلس النيابي فتقوم بسن قوانين على مزاجها. فقرار منع الاختلاط مثلا ليس إجراء يقع ضمن صلاحية البلديات، وتعميمه وجعله نافذا يتطلب سنّ قانون في المجلس النيابي والمصادقة عليه، كما أنه يتناقض مع هوية البلاد المكرسة في الدستور والتي لا تعلن أن لبنان دولة إسلامية.

تنشغل البلديات الجنوبية التي كان حزب الله ولا يزال يختار لرئاستها شخصيات أمنية، بمهمات مغايرة لمهمات البلديات، ففي حين تحفل وسائل الإعلام بأخبار التلوث الكبير الذي أصاب نهر الليطاني، والذي تبلغ كلفة معالجته حوالي مليار دولار، تقوم البلديات بالدعوة إلى تطبيق معايير الأخلاق وفرض عدم اختلاط الجنسين.

ليس هذا السلوك البلدي مجرّد ممارسة فردية بل بات شبه ممارسة عامة تهدف إلى إعادة إنتاج البلاد على هيئة القوى المتصارعة والميّالة إلى التطرف، فالمعنى الذي تتخذه هذه الإجراءات هو التمهيد للقيام بعمليات تطهير داخلية في وسط كل طائفة، وطرد وإقصاء كل العناصر التي لا توالي المنظومة الحزبية الحاكمة داخل كل طائفة، وتحويلهم إلى مجموعة من الهامشيين والدراويش، بمعنى انعدام الفاعلية السياسية والاجتماعية.

يمكن رصد هذا النزوع في ما أنتجته قرارات منع بيع الكحول في منطقة النبطية حيث حاول البعض في البداية الوقوف ضد هذه الموجة دون جدوى ورضخوا في النهاية إلى التهديدات التي وصلت إلى حدود التهديد بالقتل.

لطالما كان العنوان الأخلاقي مدخلا مفضلا تستعمله الأصوليات لتدمير كل فعاليات الرفض الاجتماعي. ومن نافل القول إن التهميش الاجتماعي هو المدخل المناسب للتأسيس للتهميش السياسي.

كاتب لبناني

4