العولمة تحتاج إلى ضحية أخرى

الأربعاء 2016/07/20

لطالما كانت العقيدة السائدة بين الاقتصاديين والنخبة المفكرة أنه كلما اتجهنا نحو العولمة، كان ذلك أفضل لنا جميعا. وفي الواقع، فأي شخص، حتى وقت قريب، يتجرأ على معارضة هذه العقيدة فإنه إما يجهل قوانين المنافسة الدولية أو هو نصير للحماية.

ومع ذلك، أظهرت داني رودريك في كتاب “مفارقة العولمة” أن أيّا من المكاسب التي يمكن أن نجنيها من العولمة سوف تفوق تكاليفها معدلات إضافية من البطالة، وانخفاض الأجور وفقدان المعاشات وتزايد المجتمعات المهجّرة. وإذا أريد للأسواق العالمية أن تكون مفيدة على نطاق واسع، فإن ذلك يتطلب نوعا من هيكلة الحوكمة العالمية التي لا وجود لها، ذلك أن معظم الناس سوف يعارضون ذلك.

وكما ذكّر غوردون براون، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق من حزب العمال، الذي حرص على إبقاء بريطانيا ضمن منطقة اليورو عندما كان وزيرا للمالية، قرّاء صحيفة الغارديان البريطانية أن الأشياء الضخمة في غرفة الاستفتاء البريطاني التي أدت إلى التصويت لصالح مغادرة البلاد للاتحاد الأوروبي، تتمثل في العولمة وسرعة ونطاق التحولات المزلزلة في أوروبا، وخاصة ما أنتجه الاقتصاد البريطاني.

تم إفراغ بلدات بأكملها في وسط وشمال إنكلترا من حيث صناعات النسيج والصلب وغيرها من الصناعات التي انهارت في مواجهة المنافسة الآسيوية، وفقد الملايين من العمال شبه المحترفين لوظائفهم. لقد تحولت مجتمعات بأكملها إلى أراض بور. وما زاد الطين بلة، تدفق الآلاف من المهاجرين من أوروبا الشرقية بعد انضمام بولندا وجيرانها إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004، وهو ما أدى إلى انخفاض الأجور وتقديم وجوه جديدة في هذه المجتمعات حيث يعيش معظم السكان على بعد أميال قليلة من تلك التي ولدوا فيها.

وفي الوقت الذي اختفت فيه الولاءات الدينية المشتركة والنقابات العمالية، يبدو أن الملايين من الناخبين البريطانيين يشعرون بالحيرة والازدراء أكثر من أيّ وقت مضى نظرا لثراء لندن حيث ارتفعت أسعار العقارات، وحيث يعتقد الشباب من أوروبا والعالم أن لندن هي ملعبهم المفضل.

أنتجت التفاوتات الاجتماعية الضخمة التي تميز بريطانيا، وبنسبة أقل فرنسا ودولا أوروبية أخرى، ثورة الفلاحين، وهي انتفاضة تبرهن على أن النخب الأوروبية تعطي انطباعا بأن السوق الموحدة والمنافسة غير المسبوقة والتنقل هي الأشياء الوحيدة التي تسترعي اهتمامهم. وفي كثير من الأحيان تبدو بروكسل خاضعة للضغوط من الشركات متعددة الجنسيات. وقد دمرت فضائح الفساد سمعة سياسيين لا يحصى عددهم في بريطانيا وفرنسا وأسبانيا وإيطاليا وخارجها.

ولقد انعكس انهيار حزب العمال في أسكتلندا قبل بضع سنوات على إنكلترا. فقد توافد ناخبوه على حملة “بريكسيت” لأن لديهم شعورا عميقا بأنهم تعرضوا للخيانة من طرف الحكومات السابقة وإدارة المحافظين الحالية.

لا شك أن براون محق عند القول إنه في حال فشلت بريطانيا ودول أوروبية أخرى في مواجهة الفوارق الضخمة التي تشكل “كعب أخيل” العولمة (مصدر ضعفها القاتل)، غالبا ما تؤدي الحركات المناهضة للعولمة، كما هو الحال في بريطانيا وفرنسا وهولندا، من طرف اليمين المتطرف إلى المكابرة بأن “سياستنا سوف تدور حول الجنسية أو العرق أو ببساطة الهوية”.

تكمن الحجة القائلة بأن الخط الجديد الفاصل في السياسة -وليس أقلها في بريطانيا- بين أولئك الذين يؤيدون عالما مغلقا أو منفتحا تعتبر أمرا خاطئا. ولا يعني ذلك أنه بسبب تجفيف أيّ أيديولوجية خارج النظام، والتظاهر بعدم وجود لامساواة عميقة غير موجودة سوف يؤدي ذلك إلى زوال المشاكل، والعكس تماما.

سواء قادتنا السياسيون أو نحن الأوروبيون كمواطنين علينا أن ندير العولمة بشكل أفضل ونعالج الظلم ونأخذ الأمور على محمل الجدّ أو لا فائدة من ذلك. وقد جعلت المناقشة العالمية التي يدافع عنها قادة حزب المحافظين المؤيدين لبريكسيت، وهم مايكل غوف وبوريس جونسون، وزعيم حزب الاستقلال نايجل فاراج أو مارين لوبان زعيمة الجبهة الوطنية الفرنسية، الأمور أكثر سوءا.

قد يكسب هؤلاء السياسيون المستهترون السلطة، ولكن لم يقدم أيّ منهم خطة مقنعة حول كيفية التعامل مع التحديات التي تواجهنا.

وكانت حجة رودريك أن الأسواق المفتوحة نجحت فقط عندما كانت جزءا لا يتجزأ من داخل المؤسسات الاجتماعية والقانونية والسياسية التي توفر لها الشرعية عن طريق ضمان أن الفوائد الرأسمالية كانت مشتركة على نطاق واسع. وغالبا ما تكون الدول الأكثر انفتاحا في مجال التجارة والاستثمار، هي الدول ذات التنظيم الأكثر شمولية وفعالية وذات الشبكات الاجتماعية الممتدة.

وخلقت العولمة مستنقعات كبرى من الفائزين والخاسرين. وتمت إعادة ترتيب كيفية عملها ومكانه وكيفية تحقيق الربح. وسوف لن تتسامح المجتمعات الديمقراطية مع أيّ عرقلة، إذا لم يتأكد أعضاؤها أن العملية سوف تكون مفيدة بشكل عام. ولن يكون ذلك هو الحال.

أما بالنسبة إلى الدول العربية، التي تشكو التهميش الاقتصادي أكثر من غيرها، فإن اجتماع العولمة وغياب الديمقراطية سوف يجعلها غير مستقرة لسنوات قادمة.

عن صحيفة العرب ويكلي

زميل مشارك في مركز برشلونة للشؤون الدولية

6