جمال بنجويني يأخذ الواقع إلى الحلم الوردي

الأحد 2016/07/03
الأهوار تستعيد حياتها

منذ عمله الفنيّ الأول، “العراق يطير”، وعمله الأحدث “حلم وردي”، والمخرج والمصور الفوتوغرافي الكردي جمال بنجويني لا يكفّ عن الانتصار للحياة. هذا الشغف بالحرية والعدالة ومقاومة الطغيان والعنف الديني وسطوة الأيديولوجيا هو الذي دفع لاورا كمنغ، الناقدة الفنية المرموقة لدى صحيفة الأبزيرفر البريطانيّة، إلى اختيار صورة من “العراق يطير” لتكون ضمن أفضل عشرة أعمال عرضتها الصالات الفنيّة في العام 2014. هذا الاختيار وضع اسم جمال بنجويني، المولود بكردستان العراق سنة 1981، في منزلة تجاور رامبرانت وماتيس وباولو فيرونيزي وجيوفاني موروني وكازيمير ماليفتش وبيت موندريان وآي ويوي وإيميلي كار وآمار كانوار.

فبين عذراء رامبرانت وقيامة مسيح فيرونيزي، كان “العراق يطير” في الهواء بعكّازين من خشب الحرب التي وضعت على الأغصان أوزارها. لم يسقط سقطة إيكاريوس، ابن ديداليوس، صانع المتاهة، في ألوان ماتيس، ولم يدخل مربّع ماليفتش الأسود، المعلق في كبد المكان كأيقونة مستقبليّة. كانت له تلك النظرات الشاخصة لخيّاط موروني والمقصّ بين يديه، ليدخل، طائرًا، في رمال موندريان الوردية تحت سماء لازورديّة.

كان يطير حول الشجرة الحديد التي وضعها آي ويوي عند مدخل البيت، وفوق الأغصان التي تركتها إيميلي كار ترتعش في الأشجار التي تمرح فيها الرياح. كان “العراق يطير”، ومن خلفه الطفل العازف في الهواء الكمان، وبائع غزل البنات الواقف على رؤوس أصابعه ضاحكًا، والفتى في ثوبه الأبيض كغيمة واقفة بين ثورين صغيرين، وسائقو العربة التي يجرّها حمار يرفع قائمتيه الأماميّتين إلى زرقة لم تعد هناك!

ولأنّه في الأصل نحّات، فإنّ جمال بنجويني يسعى -كما يقول- إلى تشييء العابر الزائل؛ أو إلى تجسيده، بوضعه في بؤرة العمل، والقبض عليه بعين العدسة. ففي أعماله السابقة، كـ “صدّام هنا”، نرى بورتريهات لجنود وجرّاحين ومعلّمين وجزّارين وخزّافين ومزارعين تغطّي وجوههم صور صدّام.

كان هدف بنجويني من هذا المشروع -بحسب مقابلة معه- نابع من إيمانه بأنّ “الفنّ يلعب دورًا حيويًّا في مواجهة الماضي والتغلّب على أشباحه”… “لقد دعّموه، وهتفوا من أجله، وجمّلوا قسوته وجرائمه ووضعوه في السلطة بكل بساطة ليكون الأب الروحيّ للعراق. صدّام هنا. ولا يستطيع المجتمع العراقيّ نسيانه حتى بعد موته، لأنّ البعض ما زالوا يحبّونه فيما البقية لا تزال خائفة منه. يقول الذين يحبّونه إنه كان وسيمًا وقويًّا وعدوانيًّا. لقد كان صدّام في تلك الأثناء كريمًا وقاسيًا، كان أبًا صالحًا ومجرمًا. وما زال ظلّه يلاحق المجتمع العراقيّ في كل مكان”.
بالأمس كانوا هنا.. أخذتهم الحرب وتركتني لظلالهم

وأما في “ملائكة الحرب”، مشروعه الآخر، يتطرق بنجويني إلى “مسألة الإرهاب والاعتقاد السائد بأنّ الشهداء يصبحون ملائكة في الحياة الآخرة”. حاول بنجويني في هذا المشروع تنقية مخيّلة الانتحاريّين الملغّمين “والانتقال بهم من العتمة إلى النّور”.

أراد ، عبر سلسلة الصورة هذه، أن يخبرهم، كما يقول، بأنهم ليسوا في حاجة إلى الذهاب إلى الحياة الآخرة ليعثروا على الملائكة، فالملائكة الحقيقيّون موجودون قربهم في الحياة الدنيا -نرى، على سبيل المثال، طفلًا بجناحين أبيضين صغيرين ينظر مندهشًا من خلف قبضان باب غرفة تشبه السجن ومروحة هوائيّة مسلطة عليه. ونرى، أيضًا عجوزًا متشّحة بالسواد، فاردة جناحيها الكبيرين في الهواء وبين يديها صورة ابنها الشهيد وهالة بيضاء تطوّق رأسه. لا نرى في الصورة إلّا الجزء العلويّ من جسد العجوز الملاك، كأنها بلا ساقين، كأنها لن تهبط على ساقين أبدًا، ستظل تطير حاملة ابنها الشهيد، وسرب الحمام الذي في أسفل الصورة يرفّ أبدًا من حولها.

وفي “حلم ورديّ”، نرى جنديًّا من البيشمركة في مخمور قرب أربيل يصوب مدفعه الرشاش تجاه سفاحي داعش. وبدلًا من أن يخرج الرصاص من فوهة المدفع، نرى خمس حمامات، مرسومات بالورديّ، ينطلقن وراء بعضهنّ وفي مناقيرهنّ أغصان الزيتون.

“ليست الحرب نقيضَ السلام”، يقول التعليق المثبت أسفل الصورة في صحيفة الغارديان البريطانية. ولا تقتصر أحلام بنجويني الورديّة على هذه الرؤية السياسية والفكرية فحسب، بل تأخذنا أيضًا في تطواف ساحر يحوّل الحيوات العادية للناس البسطاء إلى مشاهد غير عاديّة لا تشير سوى إلى الأمل- يرسم بنجويني عروسًا ورديّة تحمل وردة في كف امرأة تفردها على صورة ابنها الشهيد؛ وفي صورة أخرى، نراه يرسم حلقة من رجال ونساء يرقصون محيطين بعجوز واقفة تحت قوس من أحجار خربة. ونراه، في ثالثة، يرسم بالورديّ غيثارًا على بندقية جنديّ متأهّب.

ولم يغفل بنجويني عن رسم أسماك ورديّة على أرض البحر الذي جفّت مياهه، أرض الصيادين الذين يبحرون بقواربهم في اليابسة التي كانت قبل ذلك البحر. كما لم ينس، كذلك، أن يرسم يدًا للفتى الذي بترت يده، وعينًا بدل عينه الضريرة، وأن يُنبت أزهارًا باللون الورديّ تحت أقدام صغيرة.

إنه الأمل بكامل فرحته الذي يرسمه بنجويني بالورديّ في سلسلة صوره الجديده هذه. فهو، وإن كان الفنّ الذي يقدمه، كما يقول، تعبيرًا عن تجربته في العيش على الحدود، حيث القرية التي ولد فيها، فإنّه يغادر التخوم في الصور ويعمّر أحلامه الوردية في عين الأمل.

كاتب من الأردن

15