المجتمعات الحضرية.. مدن للناس أم للمباني والسيارات

بون (ألمانيا) - شرقا وغربا تضيق المدن بأهلها وزوارها، فالملايين المتدفقة على مدى اليوم تسرع إلى أعمالها، وحين يجن الليل، يهجع الناس في زوايا المدن أو يغادرونها، فتلمّهم غرف صغيرة وبيوت قميئة، حياتهم ركض وعمل لا يحصدون منها سوى قبض ريح، أما المدن فباتت ميادين ومرائب سيارات وقطارات وأنفاق وبنايات إسمنتية عملاقة تزاحم طيور السماء.
ويعيش في الوقت الراهن أكثر من نصف سكان العالم في المدن، وهي نسبة من المنتظر أن ترتفع أكثر مع ارتفاع عدد سكان الأرض الذي سيصل عام 2050 إلى 10 مليارات إنسان.
ووفقا لإحصائيات منظمة الصحة العالمية، يقطن أكثر من 50 بالمئة من السكان في المناطق الحضرية أي بالمدن، وسترتفع هذه النسبة إلى 70 بالمئة بحلول العام 2050. وعبر هذا المقال سأذهب إلى القاهرة من أفريقيا وإلى طوكيو من آسيا وإلى نيويورك من أميركيا، للتوقف عند هذه الحقائق.
القاهرة.. مدينة متوحشة
القاهرة عاصمة مصر وأكبر مدينة عربية وأفريقية مساحة وسكانا. يختلف عدد سكانها بحسب تقديرات المنظمات، ففي إحصاء رسمي أجري لغرض الانتخابات في العام 2015 أظهر أن عدد سكان القاهرة هو 9.5 مليون نسمة، فيما ترفع إحصاءات أخرى العدد إلى 12 مليون نسمة وحتى إلى 15 مليون نسمة نهارا.
ويختنق الناس في القاهرة بعوادم الملايين من السيارات القديمة والحديثة وعربات الترام والحافلات والقطارات وقطارات الأنفاق. وتسير وسط هذا كله الحمير والخيل التي تسحب عربات الكارو والحناطير. والقاهرة هي المدينة الأفريقية الوحيدة التي تتمتع بخدمات قطار الأنفاق فيما تتساقط عليها العوادم من العشرات من الطائرات التي تمخر سماء المدينة وافدة إليها أو مغادرة، هذا غير خدمات النقل النهري بين ضفتي النيل على طول القاهرة.
ومثلها مثل كل المدن العربية والأفريقية والآسيوية وحتى مدن أميركا اللاتينية، باتت القاهرة مدينة متوحشة تسحق الناس. ولا توجد في الشوارع مسارات للدراجات الهوائية وهي الوسيلة الأقل كلفة والأكثر رفقا بالإنسان والبيئة. لذا يضطر ركاب الدراجات إلى التنقل بين السيارات بشكل جنوني معرضين أنفسهم ومن يردفونهم وراءهم من أبناء وزوجات للعديد من المخاطر.
الــزحف المــدني والــسكــاني والصناعي في القاهرة يزاحم حتى الأموات فالمقابر فقدت حرمتها وتحولت إلى تجمعات سكانية
كما تنتشر في العاصمة المصرية عربات التكتك والدراجات النارية، ما يحرم السكان من الراحة ويسلبهم حريتهم. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن عدد السيارات في القاهرة وأطرافها يصل إلى 7 ملايين سيارة وحافلة وشاحنة بمختلف الأحجام. ولكي تسير على قدميك في أرصفة القاهرة تُضطر في المئات من المرات للنزول إلى الشارع أو اعتلاء دكات المباني والمحال، للتخلص مما قد يعيق تدفق المشاة السائرين على الأرصفة.
ويتكاثف التشجير كلما اقتربنا من ضفتي نهر النيل، المعلم الأهم في القاهرة، إلا أن المساحات الخضراء تتآكل بشكل يتناسب طرديا مع تفشي الفساد الإداري، ومع عدم الاستقرار السياسي، الذي دفع بالملايين من السكان من القرى والأرياف ومن أطراف بعيدة في مصر إلى التدفق على القاهرة بحثا عن العمل والأمان والحياة.
القاهرة مدينة لا ترفق بالأطفال، فالسيارات العامة والخاصة لا تملك نظام حماية ومقاعد مخصصة للأطفال، كما أن أحدا لا يهتم بربط حزام الأمان في السيارات ما يعرض الطفولة خاصة إلى مخاطر جمة. أكثر من هذا، فإن الصغار الذين تحملهم الأمهات في أحضانهن أو الذين يوضعون في عربات الأطفال يستنشقون بشكل منتظم أدخنة عوادم السيارات وأبخرة الفضلات وأدخنة المصانع في الشوارع وفي بيوتهم الصغيرة أو العشوائية.
وتفتقد المدينة إلى خدمات وتسهيلات الحياة لذوي الاحتياجات الخاصة. حيث أنه في حين لا يملك أغلب هؤلاء المال الكافي الذي يؤمن لهم شراء العجلات والعربات التي تيسّر لهم التنقل، فإن القلة التي تملك هذه المزية لا تستطيع استخدامها في الشوارع غير المعدة لهذه الخدمة أصلا. فالأرصفة عادة ما تكون عالية أو محاطة بسلاسل ولا تحوي مخارج انسيابية تسهل تنقل عربات لذوي الاحتياجات الخاصة. وبات الزحف المدني والسكاني والصناعي يزاحم حتى الأموات، فالمقابر هي الأخرى فقدت حرمتها وأضحى يسكنها المئات من المحتاجين.
أهل القاهرة وزوارها معذبون، تحاصرهم مقالع القمامة والمقابر وتزاحمهم المباني والسيارات وتحرمهم فرص التمتع بالحياة، وإذا كانت القاهرة الكبيرة العريقة بهذا الشكل فحدث ولا عجب عن المدن الأفريقية والعربية الأخرى الأصغر حجما.
طوكيو.. مدينة صديقة للإنسان
تعد طوكيو في نظر الكثيرين المدينة الأكثر تنظيما في العالم، وهي في الحقيقة ليست مدينة بل ولاية تحتشد فيها 26 مدينة، وتدير ضواحيها تسع دوائر بلدية يعمل فيها الآلاف من الموظفين.
وفي هذه المدينة بالغة الأناقة والنظافة والتنظيم والثراء قد يفقد الإنسان رمق إنسانيته الأخير نازفا أمام المباني الكونكريتية الزجاجية العملاقة والشوارع المركبة فوق بعضها صعودا لتعانق السماء ونزولا لأعماق موغلة البعد في جوف الأرض.
ومنذ أكتوبر 2015 بلغ عدد سكان طوكيو 13.491 مليون نسمة، موزعون على مناطق أرضية تصل مساحتها إلى 2191 كيلومترا مربعا، وبذلك يكون معدل الكثافة السكانية 6158 نسمة للكيلومتر المربع الواحد! وهو حتما رقم خيالي.
|
يعتبر النقل العام السمة الأبرز للعاصمة اليابانية، حيث تتوفر بها شبكة قطارات ومترو نظيفة ودقيقة لحد الثانية تؤمن لسكان الولاية انسيابا في التنقل لا يضاهيه مثيل في أي مدينة بالعالم، إلى جانب ذلك هناك شبكة من الحافلات والقطارات المعلقة أو الجانبية (مونو ريلز) وقطارات المدن- الترام، تنشط لإكمال المشهد.
ومقابل ذلك بات التنقل بالسيارة الخاصة مكلفا وصعبا للغاية بسبب ندرة مساحة مواقف السيارات رغم وجود الآلاف من المباني المخصصة لذلك، لكنها لا تكفي لاستيعاب المزيد من السيارات. وبات حتى الأثرياء يفضلون التنقل بالوسائل العامة حفاظا على البيئة ولتأمين سرعة الوصول. ففي طوكيو أضحى من الثوابت أنّ يتم التنقل بوسائل النقل العام، حتى إذا تضمنت الرحلة عدة تغييرات، لأنه يؤمن سرعة وصول إلى مقصد طالب خدمة النقل تفوق سرعته في الوصول إذا تنقل بسيارته الخاصة.
وفي طوكيو مطاران كبيران هما مطار ناريتا إنترناشيونال إيربورت، وهو بوابة اليابان على العالم لمختلف الاتجاهات، ومطار هانيدا إيربورت الذي يؤمن رحلات محلية في أرجاء الجزر اليابانية. لكن طوكيو العجيبة تضم فوق ذلك نحو 7 مطارات تتوزع على مساحات الجزر التي تشكل الولاية.
وطبقا لموقع “جارتر فلايت” قد تكون اليابان من بين أكثر دول العالم استخداما للطائرات الصغيرة ولطائرات الهليكوبتر للتنقل وفق ما يسمّى “جارتر فلايت” التي يقدر حجم أسطولها بنحو 7 آلاف طائرة تعمل على مدار الساعة وعلى امتداد العام لتأمين التنقل من وإلى طوكيو، فالحركة في سماء الولاية الشاسعة تفوق الوصف.
ومن مفارقات طوكيو أنّ طول الممرات المخصصة للدراجات فيها لا يتجاوز 10 كيلومترات لكن 14 بالمئة من الرحلات في المدينة تُقضى بالدراجات الهوائية التي تتنقل عبر الممرات الداخلية بين المباني لتتبع خرائط جهنمية لا يعرفها إلا سكان ولاية العجائب.
ويمتلك سكان طوكيو ثقافة خاصة بالتنقل بواسطة الدراجات ويسعون بانتظام إلى نشرها، لذا فإن أسعار الدراجات تنخفض إلى حد كبير ويترك الكثير من الناس دراجاتهم دون أقفال ليقدموا إلى الآخرين عروضا باستخدامها وإعادتها إلى أماكن وقوفها بأمانة تامة، وتبلغ معدلات سرقة الدراجات أدنى معدلاتها في العالم لا سيما في طوكيو وأطرافها.
وكل المباني الرسمية وغير الرسمية في طوكيو ملزمة بتأمين خدمات وتسهيلات الحياة لذوي الاحتياجات الخاصة، وهكذا فإن الأبواب زجاجية إلكترونية دوارة والمصاعد مزودة بأجهزة التحدث المخصصة لمخاطبة البصيرين، ومزودة بصور توضيحية للصم، وبأزرار كتب عليها بحروف بريل للمس. كما أن المرافق الصحية في المباني ملزمة بتأمين أقسام تخدم ذوي الاحتياجات الخاصة.
شوارع طوكيو جميعها تقريبا تحوي مخارج ومقتربات منسابة مخصصة لسير العربات الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة وتنقلهم. ويمكن القول دون تحفظ، إنّ طوكيو هي أكثر مدينة صديقة للإنسان في العالم.
وفوق كل ذلك تضم ولاية طوكيو مساحة من الفضاء الأخضر والمسطحات المائية تشكل 36 بالمئة من عموم أراضي الولاية. ومن ضمنها محميات ومتنزهات طبيعية كثيرة بينها خمس جنائن مدرجة على لائحة الميراث الثقافي الخاص باليونسكو، وهي بذلك أكبر عاصمة رفيقة للبيئة في العالم بلا منازع.
نيويورك.. مدينة يختلط فيها العالم
قلب العالم الجديد (في بلدان الهجرة الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا)، مدينة في ولاية والعكس صحيح، فهي ولاية نيويورك وعاصمتها “الباني” لكن أهم مدنها هي مدينة نيويورك سيتي التي يبلغ عدد سكانها 8.55 مليون نسمة. مظهر أسطوري للحياة بالمقاييس الأميركية الضخمة. وكل ما فيها كبير، فسيح ومتسع.
ويبلغ عدد سكان نيويورك كولاية بحسب آخر إحصاء نشره موقع الولاية الرسمي نحو 20 مليون نسمة. لذا فإن تسمية ولاية تليق بها أكثر من تسمية مدينة. وهي ليست عاصمة الولايات المتحدة الأميركية، لكنها أكبر وأهم منها بكثير. مدينة يختلط فيها العالم بلا هوية، كل الأجناس بلا استثناء لها أحياء وضواح ومدن وأسواق في المدينة المعولمة.
المدينة التي تلقّب بـ”غابة الإسمنت” تتآكل وتسوء خدماتها ويتهاوى الأمن فيها، ويتآكل نسيجها الاجتماعي، وهو ضعيف أصلا، وتضم اليوم عددا هائلا من المباني المهجورة والشوارع المظلمة التي لا يفكر أن يجتازها أحد.
قطارات الأنفاق فيها تفتقر إلى الصيانة وكراسيها ممزقة وزجاج عرباتها ملوث بالأصباغ والأوساخ، حيث تغرق محطاتها كذلك في القذارة والأوحال. ورغم أن الكثيرين يستخدمون القطارات وقطارات الأنفاق والحافلات في تنقلهم إلا أن نيويورك فيها نحو 12 مليون سيارة، بحسب صفحة “نيويورك دوت كوم الرسمية”، هذا غير الحافلات والشاحنات. لكن ميزة نيويورك وسائر مدن العالم الجديد هي المساحات الفسيحة والشوارع التي قد تصل ممرات السير فيها إلى ستة ممرات ذهابا وستة ممرات للإياب، ومع ذلك تغص شوارع المدينة بالملايين من السيارات، وتعاني من اختناقات سير مزمنة.
وتعتبر نيويورك مدينة لا إنسانية، حيث أن الجريمة في كل مكان، إذ تسيطر عصابات المخدرات والقتلة على مناطق كاملة. وتصل نسبة سرقة السيارات إلى مستويات خيالية، كما أن ثقافة السلاح شائعة ويقدر عدد الأسلحة في المدينة في تقدير غير رسمي نشر على موقع “كورا” بنحو ربع مليون قطعة وربما أكثر بحساب الأسلحة غير المسجلة.
وفي هذه المدينة الغاصة بكل شيء، تسوء أوضاع الطفولة، فالمدارس تغيب فيها سلطة الإدارة والمدرسين بسبب الفهم الخاطئ للحرية، وهكذا تنشأ أجيال من الأطفال بلا توجيه وبنصف ثقافة لتجد نفسها فائضة عن سوق العمل الغارق في الكفاءات المعطلة.
وذوو الاحتياجات الخاصة لا مكان لهم في غابة الإسمنت، فالركض وراء الربح السريع لا يتيح لأحد أن يتأنى وينظر إلى الحلقات الأضعف في المجتمع. التقنيات العالية توفر لذوي الاحتياجات الخاصة تسهيلات وخدمات خاصة، لكن هذا لا يحدث إلا في الأحياء الميسرة والغنية من المدينة، أما باقي الأحياء الغاصة بالعاطلين وتجار المخدرات والأشقياء وبائعات وبائعي الهوى، فلا توجد خدمات لهم. نيويورك مدينة باذخة، مكلفة والحياة فيها صعبة وتفرض على الإنسان ركضا ولهاثا لا ينقطعان، لكن هذا الوصف ليس عاما، فكثيرون في غابة الإسمنت يجدونها أجمل مدينة في العالم ويعتبرونها المدينة المثالية للأسرة.
كل هذا الحديث عن الحواضر والمدن المليونية الكبرى قد يدفع البعض إلى التفكير في الذهاب إلى الريف والعيش على ضفاف الأنهار والعمل في الزراعة البسيطة والتماس المباشر مع الطبيعة بدلا من هذه التعقيدات، وهذا للأسف غير دقيق وغير ممكن، فمن ولد في المدينة ليس بوسعه أن يفارقها، ومن لم يكن فلاحا أو راعيا أو حارس غابة لن يمكنه تعلم ذلك. الأماني لا تصنع التغيير غالبا.
كاتب عراقي