ناشر عربي يُغرد خارج السرب وحيدا في تشيكيا

لا توجد حتى الآن محاولات عربية حقيقية لإيصال الثقافة العربية لدول أوروبا الشرقية، أو لتعديل وتحسين النظرة السلبية تجاه العرب التي هيمنت خلال السنوات العشر الأخيرة على مجمل مجتمعات تلك الدول، وحين انعدمت الجهود الثقافية الرسمية، حمل المهمة الشاقة عدد قليل من المثقفين الوطنيين الذين مازالوا -رغم ارتفاع نبرة العنصرية في تلك المجتمعات تجاههم- يأملون أن يستطيعوا تغيير الصورة النمطية السلبية التي تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. الباحث والناشر السوداني شريف بحبوح آثر أن يغرّد خارج السرب، وذلك بإنشائه دار نشر في العاصمة التشيكية براغ، في محاولة لإيصال الثقافة العربية إلى الغرب. “العرب” التقت بحبوح للحديث إليه حول مسألة النشر وتحدياتها، وعن واقع الترجمة اليوم، وعن نظرة الغرب إلى الثقافة العربية، وعن مواضيع أخرى، فكان الحوار التالي:
السبت 2016/06/18
لا وجود لأي مؤسسة عربية رسمية تقوم بأي نشاط ثقافي في تشيكيا

وسط العاصمة التشيكية براغ افتتح شريف بحبوح داراً للنشر، وصرف عليها من مدّخراته الخاصة لأكثر من عقدين، وقدّم للقارئ التشيكي نخبة من ترجمات الكتب العربية التي يمكن أن تعكس الصورة الحقيقية للعرب كشعب غني متنوع متعدد المشارب والاهتمامات، وحرص على التأكيد خلال عمله ومعارضه وعلاقاته على أن العرب ليسوا (دواعش) أو متخلفين كما تحاول الكثير من وسائل الإعلام في تلك الدولة رسمه.

أسس الباحث الجامعي شريف بحبوح دار (ابن رشد) عام 1990 في براغ، وقرر أن تختص بالشرق عموماً وبالعالم العربي على وجه الخصوص، وأصدر منذ تأسيسها أكثر من 300 عنوان بالاعتماد على جهده الشخصي فقط، دون أن يحصل على أي تمويل من أي جهة عربية أو غربية، وهذه الجهود الذاتية لم تسمح لهم بتوظيف الكثيرين في الدار، لذا لا تفارقه زوجته التشيكية الرسامة (ياروسلافا بتشوفسكا) وتشاركه في إدارة الدار، وتقوم بنفسها بالأعمال الفنية وتزيين الأغلفة واللوحات، على الرغم من أنها رسامة محترفة مشهورة ولديها لوحات في المتاحف الدائمة للفن في نيويورك ولندن وكوبنهاغن وبراغ وغيرها.

غياب التمويل

يقول شريف بحبوح في لقاء مع صحيفة “العرب” “كنا نمتلك مكتبتين في براغ لبيع الكتب، لكن الظروف التي تمر بها البلاد وموقف الناس والتشدد تجاه العرب والمسلمين تسببت في الاعتداء عليهما قبل سنتين الأمر الذي دفعنا لإغلاقهما، وعموما أصبح بيع الكتاب الذي يتحدث عن العالم العربي بإيجابية أمرا في غاية الصعوبة في الوقت الراهن، وصار توزيعه صعبا جداً في ظل التمييز العنصري القائم راهناً”، لكنّه أضاف “مع هذا لم نستسلم، ومازلنا ننشر بنفس الزخم، على أمل تصحيح معلومات التشيك عن العالم العربي والإسلامي والتي تبقى على مستوى القرن السادس عشر”.

أصدرت الدار كتباً عن الأدب العربي والتاريخ والدين، وكتباً للتدريس والفلسفة، فضلاً عن موسوعات وكتب عن تجديد الإسلام، وترجمات من اللغات العربية والشرقية للتشيكية وبالعكس، كما تُرجمت كتبها من التشيكية إلى الإنكليزية في مجال البحث الاجتماعي والعلاقات القائمة بين فئات المجتمع العربي، ومن بين إصداراتها سلسلة قواميس عربية ـ تشيكية، وقاموس هندي ـ تشيكي حاز جائزة الشرف في معرض الكتاب العالمي في براغ، وترجمت كتباً من الفارسية والصينية والكورية إلى لغة أهل البلد، كما تمكنت من إصدار كتب عن القصة المغربية والجزائرية والمصرية والليبية واليمنية والسعودية والعراقية واللبنانية والسورية، وفازت هذه السلسلة الأدبية بجائزة أفضل ترجمة لعام 1998 في عموم تشيكيا.

وفي هذا السياق يقول بحبوح، الذي عمل في المعهد الشرقي التابع لأكاديمية العلوم التشيكية، ودرَّسَ اللغة العربية والروسية للتشيك والتشيكية للأجانب بجامعة كارل في براغ وجامعة بلزن لنحو 40 عاماً “إن إصدار كتب عن العالم العربي عملية سهلة إن وُجد التمويل، لكننا لا نحصل عليه من أي جهة، ونموّل أنفسنا بأنفسنا، ومن الناحية الاستثمارية لا بد من الإشارة إلى أن الموزّع يأخذ 45 بالمئة من ثمن الكتاب، تضاف إليها نسبة 10 بالمئة ضريبة تأخذها الدولة عن كل كتاب يصدر، ثم ضريبة أخرى بنسبة 10 بالمئة عن كل كتاب يُباع، لهذا نلجأ في أحيان كثيرة إلى بيع الكتب عبر الإنترنيت، أو في مهرجانات ومعارض الكتب العديدة، وأهمها مهرجان (هلال في سماء براغ) الذي يُقام في نوفمبر من كل عام، واسم هذا المهرجان بالمناسبة مأخوذ من اسم ديوان شعري لي صدر باللغة العربية والتشيكية معاً، وكذلك مهرجان الثقافة العربية في مدينة بلزن الذي يُقام في أبريل كل عام. ومهرجان الثقافة الشرقية في مدينة ملادا بوليسلاف في مارس من كل عام”.

شريف بحبوح يدافع عن الثقافة العربية التي تزداد تشوها كل يوم

تُصدر الدار حالياً حوالي 12 عنواناً في السنة، بمعدل إصدار جديد كل شهر، وهو رقم صغير بالنسبة إلى عموم هذا البلد، ويوضح الناشر بحبوح “عادة نطبع بين ألف وألفي نسخة من الكتاب، وبالمقارنة مع حجم طباعة الكتب في العالم العربي نجده رقماً جيداً، وقمنا بطباعة طبعات عديدة للكتب التي لاقت رواجاً، وفي الحقيقة الكتب التي تصدر عدة مرات ويُعاد طبعها هي التي تُموّل الدار”.

واقع النشر

وعن واقع النشر في تشيكيا يقول الناشر شريف بحبوح، الذي كتب واشترك بكتابة أكثر من 65 كتاباً “يبلغ عدد سكان الجمهورية التشيكية عشرة ملايين ونصف المليون، وعدد دور النشر فيها يزيد عن ثمانية آلاف، أما عدد دور النشر النشيطة فيبلغ 2585 داراً، وهي دور النشر التي تُصدر أكثر من عنوان سنوياً، وهناك مؤسسات للنشر تضم عدّة دور وتصدر سنوياً أكثر من ثماني مئة عنوان، وحسب الإحصائيات لعام 2015 يبلغ عدد العاملين في نشر الكتب 3500 شخص، أما العاملون في بيع الكتب فيبلغ عددهم 3400 مستخدم، وعدد الكتّاب الذين يتعاملون مع دور النشر يزيد عن 800 كاتب،

وعدد المترجمين 600. المُزيّنون للكتب 650 رساماً، وعدد العاملين في مطابع الكتب 800 عاملاً”.

ويضيف ” تصدر مجلة تشيكية أسبوعية خاصة بالكتب الصادرة حديثاً، وحسب القانون على كل دار نشر أن تُخبر القراء والمكتبات بالمعلومات عن كل كتاب جديد يصدر لديها، وتودع نسخة إلزامية للمكتبات الوطنية تحت طائلة الغرامة الكبيرة، وحسب النشرة التي صدرت هذا الأسبوع فإن عدد الكتب الصادرة سنة 2015 في تشيكيا بلغ 16850 عنواناً، وهو عدد أكبر من كل ما تصدره الدول العربية الـ 22 مجتمعة، على الرغم من أن عدد الناطقين باللغة العربية يتجاوز الـ350 مليوناً”.

ويتابع قوله “أما الكتب المُترجمة فهي 52.2 بالمئة من الإنكليزية، و23.6 بالمئة من الألمانية، و5.5 بالمئة من الفرنسية، و1.5 بالمئة من الأسبانية، و1.4 بالمئة من الروسية، و15.8 بالمئة من اللغات الأخرى بما فيها العربية، ومن إحصائيات عام 2014 نرى أن عدد الكتب الصادرة للأطفال قد بلغ 5129 عنواناً، وللجامعات 1922، وللمدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية 1192 كتاباً”.

توجد في تشيكيا 5360 مكتبة عامة تقوم بإعارة الكتب لأكثر من مليون ونصف المليون من القراء، ويبلغ عدد العاملين فيها 5345 موظفاً، ويمكن دراسة فرع نشر وطباعة الكتب في ثلاث مدارس مختصة، وبالإمكان زيادة الاختصاص في ثلاث جامعات.

ما يُنشر عن طريق غير العرب يزيد سلبية هذه الشعوب تجاه العرب

مخطوطات نادرة

تمتلئ بطون المكتبات العامة والمكتبة الوطنية بالمخطوطات العربية النادرة التي لم تُكتشف بعد، ولم يتم نفض الغبار عنها، ويؤكد الناشر العربي “لقد أصدرنا بالتعاون مع المكتبة الوطنية واليونسكو كتابين عن المخطوطات العربية في براغ، حيث يوجد نحو 200 مخطوطة عربية خام، لم يدرسها أحد ولم يبحث فيها أحد بعد، وبعضها يعود إلى القرن الحادي عشر، وهي في غاية الأهمية.

ومن بين المخطوطات قرآن غير منقط ينقصه التشكيل يعود إلى القرن الثامن، وأنجزنا دراسة موسعة وأعددنا قرصا ليزريّا عنها، وأرسلنا نسخاً من الكتابين للمؤسسات العربية المختصة بالمخطوطات وللسفارات العربية دون أن نجد أي اهتمام من أي طرف على الرغم من أن هذه المخطوطات قادرة على تغيير نظرة الغرب للعرب وتؤكد على أسبقيتهم في الكثير من المجالات العلمية والفكرية والبحثية”.

سلبية النظرة

حصلت الدار حتى الآن على ثماني جوائز، أكثرها يتعلق بالعالم العربي واللغة العربية، وحصل قاموسنا العربي ـ التشيكي على الجائزة الثانية لعام 2012 وعلى الجائزة الأولى عام 2015 على مستوى أحسن كتاب أجنبي في تشيكيا، وكذلك حصلت الموسوعة الإسلامية التي ألفناها على الجائزة الأولى عام 2013، وهي جوائز توزع في معرض الكتاب العالمي الذي يُنظم في براغ كل سنة في الشهر الخامس.

وصدر كتاب عن أفضل مئة كتاب خلال العشر سنوات الأخيرة في تشيكيا وحاز أحد كتب الدار على المركز الأول، كما صدر كتاب عن أفضل مئة دار للنشر في تشيكيا وكانت الدار بينها.

يشدد الناشر شريف بحبوح على أن ما يُنشر عن طريق غير العرب يزيد سلبية هذه الشعوب تجاه العرب، ويقول “أصدرت دور النشر التشيكية ولا تزال تُصدر كتباً عن العالم العربي من تأليف التشيك أو مترجمة عن الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية، وأكثر هذه الكتب تتعلق بالفراعنة أو أساطير العرب أو ضد العرب وتسيء لسمعتهم وتُشوّه الإسلام، ويجب أن تكون هناك مؤسسة عربية تقوم بنشر الثقافة العربية في دول (أوروبا الشرقية)، ودراسة رغبة القارئ فيها، لكن هذا لم يحصل ولهذا علينا ألّا نستغرب نظرتهم السلبية جداً تجاهنا”.

ارتفاع نبرة العنصرية تجاه العرب

وعن المشاركة في المعارض العربية يقول “قمنا بالاشتراك مرتين بمعرض تونس الدولي للكتاب، وقد كلّفنا الاشتراك مبلغاً يعادل قيمة إصدار كتابين، وكانت المبيعات قليلة جداً، ولهذا لم نكرر الاشتراك لأننا نُفضّل إصدار عنوان جديد على أن نشترك في معرض يُكلفنا الكثير من الأموال، ونكتفي حالياً بأن تعرض السفارة التشيكية كتبنا في المعارض العالمية كما يحصل في تونس والرباط والجزائر ومصر وأبوظبي”.

الربيع العربي

عن الربيع العربي وتأثيراته، يرى بحبوح أنه لا يوجد تأثير للربيع العربي ثقافياً في تشيكيا، سوى تأليف النوادي والمنظمات التي فشلت عند لحظة تأسيسها بسبب الخلافات بين مؤسسيها، وبعد

الربيع العربي ولجوء الشعوب العربية التي دمّرت الأنظمة بيوتها وحاضرها إلى أوروبا، زاد حقد التشيك على العرب والمسلمين، ويمكننا القول إن التمييز العنصري ازداد في الأوساط الرسمية أكثر منه في الأوساط الشعبية.

يقول “من الواضح أن المعلومات عن العالم العربي في تلك البقعة من العالم مشوّهة، ولا توجد مؤسسة عربية رسمية تقوم بأي نشاط ثقافي هناك، ولا يتعلق الأمر بالدفاع عن العرب بقدر ما هو دفاع عن الثقافة العربية التي -وللأسف- تزداد تشويهاً كل يوم”.
17