تسريب القيم والأخلاق
سرت بمصر موجة عارمة من اللغط والقيل والقال وحرب التراشق بالاتهامات منذ تم الإعلان عن فضيحة تسريب بعض امتحانات الثانوية العامة "الباكالوريا"، ولم يكن تسريبا للأسئلة فقط ولكن تجاوزها إلى ورقة الإجابات النموذجية، وتتابعت الأخبار بعد تسريب مادة التربية الدينية إلى اللغة الإنكليزية وغيرها من المواد.
ولست هنا لانتقاد المؤسسة التعليمية المترهلة بالأساس والمرهقة بشيخوختها وضعفها حد العجز عن التناغم مع التكنولوجيا الحديثة ومقتضيات العصر، واللهث المبالغ به في ماراثون الثانوية العامة وكونها مجرد سلة لجمع الدرجات بغض النظر عن المهارات الإبداعية والقدرات الحقيقية للطلاب وما حصلوه بالفعل من العلوم والآداب، وما يمكن أن يضيفوه لمستقبل بلادهم.
لفت نظري ابن جاري “الدلوعة” الذي ما رأيته إلا متنزها مع أصدقائه أو مداعبا للفتيات، يستمتع بوقته أو يضيعه لا فرق، وكلما قابلته أوصيه بالمذاكرة فيبتسم “لا تقلقي بابا هايدخلني أفضل كليات التعليم الخاص”، في حين أرى أحمد وهو جار آخر لم يضيع وقتا ولم يشغل باله بغير المذاكرة والتحصيل فقد بدأ مشواره مع الثانوية العامة منذ نهاية العام الفارط حتى أنه لم ينعم بعطلة نهاية العام وظل حبيس كتبه حتى يحقق حلمه في الالتحاق بكلية الطب.
ما بين النموذجين مسافة شاسعة اختزلتها التسريبات حتى ساوت بينهما تماما، إهدارا للعدالة والشفافية وتسوية للذين يعملون والذين لا يعملون.
بدأت الامتحانات بصفعة للقيم والأخلاق بتسريب الامتحانات والإجابات النموذجية فاختلط الملح بالسكر والطين بالعنبر، اختلط ابنا الجارين الدلوعة والمجتهد.
وبعيدا عما يعانيه طلاب الثانوية العامة من اكتئاب وحالة نفسية سيئة، وما تتكبده الأسر من أعباء مالية ونفسية، وحالة الشد العصبي والاستنفار التي تعلنها الأسر المصرية مع اقتراب موعد امتحانات الثانوية العامة والمشهورة في مصر باسم “البعبع”.
فقضية تسريب الامتحانات التي نالت هذا القدر الكبير من الضجة والصخب حولها وهل من سربها موقع “شاومينغ” أو طلاب ومدرسون، القضية بنظري أكبر من هذا بكثير وقد ضربت أكثر ما ضربت القيم والأخلاق والمثل العليا وكل ما يمكن أن نتحدث عنه من أسس وقواعد التربية القويمة، والأدهى أن الأهل أنفسهم كانوا يلقنون أبناءهم الإجابات عن طريق الهواتف المحمولة، وفي بعض قرى مصر كان البعض يمسك بمكبرات صوت لنقل الإجابات عبر “أثير” الميكرفونات.
اختار أهالي الطلاب أن يهدموا قيم أبنائهم وأخلاقياتهم ومبادئهم بمساعدتهم على الغش، لا أعلم في ما كانوا يفكرون وهم يلقنونهم درسا عمليا في الانهيار الأخلاقي والقيمي وانعدام تكافؤ الفرص ومساواة الصالح بالطالح والمجتهد بالكسول، فهل كل ما يشغل بالهم جمع أكبر قدر من الدرجات حتى يتفاخروا بتفوق أبنائهم مع تمام علمهم بأنه أكبر خدعة مارسها الأهل أنفسهم، أم لضمان مكان مناسب في ما يسمى كليات القمة من الطب والهندسة والاقتصاد والعلوم السياسية، أم ماذا؟.
هل تساءل من استفاد من التسريب أو من عمل عليه أو قام به، أين العدالة بين الطلاب وكم من البشر ستضيع أعمارهم جراء العلاج على أيدي أطباء فاشلين غشاشين، وأي تقدم هذا الذي نرجوه في قطاع صحي مهلهل من طبيب نال شهادته بالغش وساعده عليه الأهل، وأي منازل آمنة ومبان رائعة ومشاريع معمارية عظيمة تحكي حضارة وتاريخا تحلم بها الأجيال القادمة وهل قادر عليها مهندس نجح بالغش وسرقة مجهود لم يبذله، ماذا لو تمخضت هذه الأزمة عن ساسة وقادة ورجال خارجية وإعلام بهذا التدني العلمي والأخلاقي، وهل سيعلق الأهالي شهادات أبنائهم على حوائط آيلة للسقوط ويشربون نخب التفوق على وطن يبنى بسواعد هشة وقلوب ضعيفة، ومن المستفيد؟.
كاتبة من مصر