موبي ديك الرواية الشاملة
هذا الكتاب اقتنيته صدفة من باعة الكتب القديمة بنهج زرقون في مدينة تونس العتيقة، حينما بدأت أتهجى مبادئ اللغة الفرنسية، ولم أكن أعرف لا صاحبه ولا كونه أثرا أدبيا جليلا عدّه النقاد رمز الرومانسية الأميركية وعلامة بارزة في الأدب العالمي، استفاد منه ألبير كامو في “الطاعون” وإرنست همنغوي في “العجوز والبحر” وجاك كيروك في “على الطريق”، وصنّفه سومرست موم من بين الروايات العشر الأكثر أهمية في العالم. اخترته لثمنه البخس أولا، ولم تكن في جيبي غير ملاليم، ولرسوم داخلية عن بحارة يصطادون سمكا هائلا بالخطّاف، ولافتتاني بالبحر ثانيا، رغم أني سليل مزارعين من سهول الشمال الغربي الخصيبة، ولا أحسن السباحة حتى اليوم.
شدتني روح المغامرة التي تحدو بحّارة يغالبون المحيط وعواصفه وأنواءه لصيد حوت بعينه، أبيض اللون ليس لعظمة بنيته مثال، ثم انشددت إلى هذه الرغبة الجامحة في الانتقام التي استبدت بالرّبان آخاب وملكت عليه تفكيره وأعمت بصيرته، فما عاد له من مطمح سوى أن يَسلّ ثأره منحوتٍ أوْهَى جسده ولم يثبط عزيمته، لكي يطفئ نقمته. ومازلت أستحضر ذلك البطل الجهم الذي يهابه البحّارة حين يذرع سطح سفينته “بيكود” في صمت، فلا يُسمع سوى وقع رِجله العاجية وهي تقرع الخشب، أو حين يصدر أوامر كالقول الفصل، لا يقبل جدلا ولو كان الموت راصدا، ثم حين يخوض صراعا بطوليا ضدّ غريمه الذي لم يكتف بالقضاء على مُطارِده آخاب، بل دمّر السفينة ومن عليها، ولم ينج سوى إسماعيل البحّار، إذ تعلّق بتابوت بحّار آخر كان قد لقي حتفه، ليكون الساردَ الذي يروي ما جرى.
قنعت بهذه القراءة أعواما، حتى شاهدت شريط جون هوستون، وقد صار لآخاب وجه لا يفارق مخيلتي كلما ذكرت “موبي ديك” هو وجه غريغوري بيك، فعدت إلى الرواية، ووقفت على ما يسمّيه كميل دو توليدو “الأركيولوجيا التخييلية”، أي تلك الطبقات المتراكمة التي ينطوي عليها كل عمل فني عظيم. فالرواية تصور محاولة الإنسان السيطرة على الطبيعة حدّ الهوس، و”موبي ديك” ليس حوتا هائلا فحسب بل هو “هاوية نجري نحوها وقد وضعنا على أعيننا شيئا يحجب عنا رؤيتها”، كما يقول باسكال. وفي ذلك إحالة إلى الأساطير القديمة، توراتية (آخاب أحد ملوك بني إسرائيل كما جاء في سفر الملوك الأول) أم يونانية (أسطورة سيزيف). وآخاب، الذي أعمته رغبة الانتقام عن التهلكة فكان كالسائر إلى حتفه بظلفه فهلك وأهلك من معه، يبدو كأول مجانين العصر الرأسمالي الذي سخّر الأرض لحاجات الإنسان، وبطل ملحميّ يواجه نظاما إيكولوجيا يتجاوزه، أو ضحية نتعلم من سيرتها أن عدم احترام الطبيعة وقوانينها مآله خسران عظيم. أما من حيث الشكل، فالرواية عمل شامل جمع إلى جانب الروح الملحمية والنبرة الغنائية نزعة علمية نحو تفسير أهمية صيد حوت العنبر ومنافعه الاقتصادية في المجتمع الأميركي خلال أول عهده بالتصنيع، كما مزج السرد بالمسرح من خلال حوارات متوترة تساهم في تنمية الأحداث عبر لغة شاعرية وأسلوب سلس.
ورغم الأعوام المتباعدة، لا تزال صورة آخاب مطبوعة في ذهني، صورة رجل يتحدى الموت، ويعصي التعاليم التوراتية، فيكون مآله كمآل برومثيوس سارق النار المقدسة.
كاتب من تونس مقيم بباريس