القراءة الضريرة
في شهر مارس الماضي أكملت سنتين من الانتظام في كتابة المقال الصحافي لعدد من الصحف المصرية والعربية.
الرابط المهم في هذه الصحف أنها كلها تمتلك بوابات إلكترونية تفاعلية إضافة إلى مواقع على وسائل التواصل الاجتماعي، تسمح باستقبال ردود ومداخلات القراء أولًا بأول، إضافة إلى ما يصلني في بريدي الإلكتروني الشخصي.
هذه التعليقات -بالنسبة إلى شخص مهتم بالدراسات الثقافية- كنز لا يُفوّت، فهي مادة شديدة الثراء إذا أجدنا التعامل معها. وهو ما أمنحه جزءًا من وقتي بشكل شبه منتظم أملًا في تقديم طرح جاد بشأنه.
الظاهرة الأشد لفتًا للانتباه لمن يحرص على متابعة هذه الردود -بعد تدريب النفس على عدم التفاعل مع ما تتضمنه من شتائم وإهانات شخصية- هي أننا نعاني من مشكلة سوف أجتهد وأصفها بـ”القراءة الضريرة”، وهي قراءة يقوم بها الإنسان بحثًا -فقط- عن فرصة لتصنيف الكاتب وليس للتواصل مع أفكاره، فالقارئ الضرير -بهذا المعنى- لا يقرأ بهدف استقبال الفكرة وتقليبها على وجوهها ليقبلها أو يرفضها إذا كانت معطياته تسمح بذلك، وإذا لم تكن تسمح فإنه يفكر فيها وينشغل بها إلى أن يصل لرأي بشأنها سلبًا أو إيجابًا. إنما هو ينتقل بعينيه بين الأسطر ليقع على بعض الإشارات التي تسمح له بتصنيف الكاتب -وليس حتى الرأي- ثم يبدأ في استخراج محفوظاته المعتادة تجاه هذا الكاتب وفقًا للتصنيف النمطي الذي نجح في اختياره له.
الأساس أننا نقرأ من أجل تكوين وجهة نظر في ما يُعرض علينا من مسائل ومواقف الحياة، وهو أمر لن تفتقده ككاتب وسوف تسعد بتواصل قراء من هذا النوع يعترضون ويتساءلون ويتفقون ويختلفون بحثًا عن نقطة أعلى من التواصل.
أما البعض فإنهم فقط يقرأون لتعزيز وجهة نظرهم، هؤلاء يشبهون بالونات الهواء، فلا يزيدهم الامتلاء سوى ضعف وهشاشة.
وهناك من يقرأون للحصول على حجة يكيدون بها لأعدائهم، وهؤلاء يشبهون الأقواس تزهو للحظة ثم ترتخي فور أن ينطلق منها السهم، طاش أم أصاب.. فلا فارق.
هناك فريق آخر يقرأ الأشخاصَ وليس الأفكار، فكل ما يقوله فُلان صحيح ومهم وجليل، وهو ليس كذلك إذا قاله عِلّان، وهؤلاء عبيد لهم فلسفتهم في تبرير العبودية والتشرف بها، ولا يُعوّل عليهم من الأساس.
تكتب المقالة الواحدة فتجد أن نسبة كبيرة من مدمني القراءة الضريرة صنفتك -أنت لا مقالك- ضمن فئة بعينها وانهالت سبًّا وقذفًا في شخصك وأصلك ونسلك، ونسبة أخرى منهم صنفتك ضمن الفئة المعادية للفئة الأولى! ومنحتك أيضًا نصيبك من اللعنات، وثمة نسبة ثالثة وهم عُبَّاد الأشخاص سوف يتهمونك بالتفلسف تحت سؤال: من أنت حتى تتكلم في كذا؟ حتى لو كنت تردد الأفكار نفسها التي يرددها نموذجهم الأعلى، ولكنك لست هو.
ثمة أمل وسط كل هذه العتمة، لمسته بنفسي حين قررت التصدي بهدوء بالرد على كل شخص قام بتصنيفي وفق منهجه في القراءة الضريرة، وبدأت بأشدّهم عدائية، طلبت منهم إعادة القراءة إذا كانوا قد اكتفوا بالعنوان، وأوضحت لهم في نقاط مباشرة وسريعة أنهم تسرعوا في تصنيف المقال وأشرت إلى نقاط فيه تعينهم على لمس ما أقصده معلنًا أنني لا أكتب منطلقًا من موقف سياسي أو ديني إنما من موقف إنساني يقبل الجميع ويعترض على الجميع من دون تصنيف.
النتيجة التي تمنحني الأمل هي أن الكثيرين ممن تواصلت معهم خرجوا من أسر القراءة الضريرة وتحوّلوا إلى بشر آخرين، وبعضهم أسهم بالفعل في تطوير رؤيتي للأشياء وتعديل نظرتي لبعضها عندما نظر بهدوء وفكّر.
أيها الكتّاب، هناك أمل فاهتموا بقرّائكم.
شاعر من مصر مقيم في الإمارات